“محمد القليني” اسم لشاعر معروف، أضحى اليوم اسمًا لقاص صاعد.. انفجرت موهبته فجأة، فشغل الأوساط الثقافية والأدبية بما يقدم، حصد ديوانه الأول “أركض طاويا العالم تحت إبطي” على جائزة أخبار الأدب ثم جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب، صدر ديوانه الثاني “سقط شيء من شيء” مطلع عام 2018 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم توقف لـ 3 سنوات عن إصدار أي ديوان جديد، قبل أن يعود إلى الساحة مرة أخرى، لكن من نافذة جديدة، بعد إعلان فوزه بالمركز الثاني لجائزة الشارقة للإبداع العربي فرع القصة القصيرة.. فهل هو شاعر أم قاص؟ لماذا يغيب؟ وكيف شكل ماضيه واقعه الحالي، وجعله ما هو عليه؟.. التقيناه لنعرف، ففتح لنا أبوابًا على حياته لم يفتحها لأحد من قبل، تحدث عن الحياة والشعر والموت والمخاوف.. عن ماضيه كمنتم للفكر السلفي، وحاضره كشاعر تختلط الحقيقة في إجاباته بالمجاز، وتتوه الكتابة الصحفية الرصينة، بين جمله وألاعيبه الأدبية، التي يصر أن يضمنها حديثه.
شاعر أم قاص؟ كيف تعرف نفسك؟
لاعب الكرة يحرز أهدافا بقدمه مرة وبرأسه مرة، الشعر هو القدم، والقصة هي الرأس، تظن أنني سأقول: والكاتب هو اللاعب. لا.. الكاتب هو الشبكة التي يمكن أن تثقبها الكرة في أي لحظة.
* أشعارك تحمل نزعة قصصية واضحة، وبعض قصصك فيها رقة شعرية تجعل فكرتها صالحة كقصيدة.. ألا تخشى من أن يقول بعض النقاد: هذه ليست قصصا؟
الفن، أي فن، ضد القواعد والقوانين، لا يمكن لأحد أن يقول: لا يكتب الشعر إلا هكذا، ولا يمكن لأحد أن يقول: لا تكتب القصة إلا هكذا. صحيح أن هناك نظريات نقدية داخل كل جنس أدبي، لكنها مجرد نظريات يمكن أن يضرب بها الكاتب عرض الحائط جانحا نحو التجريب. ثم من منهما يأتي أولا: الكتابة الإبداعية أم النظرية النقدية؟ بالتأكيد الكتابة الإبداعية تأتي أولا، ثم تأتي النظرية النقدية لتبين وتبرز ملامح هذه الكتابة، لا لتسجن كل الكتاب الذين سيأتون لاحقا داخل هذا القالب وهذا الأداء. نحن لا نكتب القصة أو الشعر وفقا للنظريات التي استقاها النقاد من تجارب كتاب سابقين، صحيح أننا يمكن أن نسير في نفس الطريق، لكن لا يمكن أن يقبل كاتب أن يقول له أحد: هذه هي الطريق الوحيدة. الإنسان يتطور، والكتابة أيضا، لأنها كائن حي.
* أنت إذًا ضد الفصل بين الأجناس الأدبية؟
قديما وضع أرسطو في كتابه “فن الشعر” حدودًا فاصلة بين الأجناس الأدبية، محذرًا من الخلط بين هذه الأجناس، لكن الآن، في هذا العصر، ومع هذه التكنولوجيا التي أزالت الحدود بين الدول نفسها، ليس هناك جنس أدبي نقي بنسبة مئة في المئة، الشعر يستفيد من تقنيات وأدوات الكتابة القصصية، والقصة تستفيد من تقنيات وأدوات الكتابة الشعرية، أنا ضد الفصل التام بين الأجناس الأدبية، وفي نفس الوقت ضد الخلط الكامل بينها، فلكل جنس أدبي أدواته وخصائصه، وعلى الجنس الذي يريد الاستفادة من أدوات وخصائص الجنس الآخر ألا يتنازل -في سبيل ذلك- عن أدواته وخصائصه هو، بل عليه أن يحتوي أدوات وخصائص الجنس الآخر داخله.
* قلت إن الكتابة كائن حي، ويبدو من خلال متابعتي لنصوصك الشعرية والقصصية أنك تأنسن كل ما تقع عليه عيناك.
أنا أرى كل ما حولي كائنات حية، لها مشاعر وأحاسيس، السيارة كائن حي، السحابة، الرصيف، المبنى، عمود الإنارة، حتى النكتة التي تخرج من فم أحد الأصدقاء المجتمعين في المقهى ذات ليلة شتوية كائن حي، أراها وهي تخرج من الفم عارية، مرتجفة، ومذعورة، لتختبئ بين الطاولات، وربما يدوسها حذاء متسخ. نضج نحن بالضحك، بينما تتعثر النكتة المسكينة في أعقاب السجائر والمناديل الورقية والبصاق الجاف، كل ما حولي كائنات حية، وربما الشيء الوحيد الميت في هذه الحياة هو الإنسان.
القارئ لنصوصك الشعرية سيلاحظ خوفك من الموت، انشغالك به، الموت هاجس بالنسبة لك، لماذا؟
لا أخاف شيئا كما أخاف الموت، وكثيرا ما احتضنتني زوجتي وأنا أهب من النوم مفزوعا، محاولة أن تهدئ جسدي الذي ترتجف كل خلية فيه، ونظراتي التي تدور في أرجاء الغرفة كأنما أراها للمرة الأولى، وبمجرد أن يتوقف ارتجافي، تبدأ هي في البكاء مع ترديدي للجملة التي أقولها لها في كل مرة تهاجمني فيها هذه النوبة القاسية: ضعي في قبري مطرقة كبيرة، لا تتركيهم يغلقون عليَّ القبر دون أن تكون المطرقة بالداخل. ولقد اشتريت المطرقة بالفعل، ووضعتها فوق الكومودينو بدلا من الأباجورة التقليدية، وعبثا حاولت زوجتي تنحيتها جانبا، فلا يمكن أن يغمض لي جفن إلا إذا كانت المطرقة آخر ما أراه قبل النوم، وأول ما أراه عند استيقاظي، وأقصى ما استطاعت أن تفعله هو أن تضعها داخل صندوق السرير قبيل الزيارات العائلية، على أن تعيدها إلى مكانها فوق الكومودينو عقب مغادرة الضيوف.
* ألا يحتاج ذلك إلى تدخل من طبيب نفسي؟
ذهبت إلى عدد من الأطباء النفسيين، وكانوا يسألونني: لماذا تحتاج إلى مطرقة وأنت ميت؟ فأجيب: لأهشم بها القبر عائدا إلى سطح الأرض. هذه هي المشكلة التي تؤرق حياتي: كيف سأتنفس في حفرة ضيقة؟ وكما فشلت زوجتي في إقناعي سابقا، فشل الأطباء الذين زرت عياداتهم في إفهامي أن أنفي سيتحلل، ومن ثم لن أكون في حاجة إلى التنفس، الموتى لا يتنفسون، هكذا قالوا، لكني ظللت رغم ذلك أستيقظ شاعرا بالاختناق، وظلت زوجتي تحتضن جسدي المرتجف، وتبكي، حتى في الشتاء لا أضع أي غطاء فوق جسدي، لأن الغطاء يذكرني بسقف القبر الذي سيجثم فوقي، وأكاد أختنق من التفكير، مجرد التفكير، في أن على مقربة مني امرأة تنام ملتحفة بغطاء ثقيل، ثم إنني لا أستعمل المصاعد الضيقة كالقبور.
* لكن بالتأكيد وضع الطبيب النفسي يدك على أصل المشكلة.
لقد حدث ذات مرة، وبينما كنت أتصفح أحد المواقع الإخبارية، أن رأيت تحقيقا عن الإشاعة السخيفة التي لاحقت موت الفنان صلاح قابيل، قالوا وقتها إنه قد دفن حيا، إذ هاجمته غيبوبة السكري فحسبوه ميتا، هكذا دفنوه، وهكذا استيقظ الرجل ليجد نفسه محشورا في قبر ضيق مظلم، محشورا ووحيدا، لا يستطيع الحركة أو التنفس أو الهرب. أي رعب أصابه في هذه اللحظة؟ وفجأة برقت في ذهني ذكرى بعيدة، انقشعت عنها الغيوم التي كانت تحجبها عني، كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وخالتي تقف بجانب أمي في المطبخ منهمكتين في إعداد الطعام، وإذا بهما تتسليان بحكي ما حدث للفنان في القبر، استمعت إليهما بانتباه شديد، قالتا إن حارس المقابر قد سمع صراخا مذعورا يخترق أذنيه، فأخذ يطوف على المقابر دون أن يهتدي إلى مصدر الصراخ الذي استمر في البداية صاخبا، ثم ما لبث أن أخذ في الخفوت حتى تلاشى، وعندما فتح الحارس مقبرة الفنان، وجد أن الفنان قد مات بالفعل مختنقا وهو يحاول الخروج، حيث كان كفنه الأبيض ممزقا، وعلى وجهه علامات رعب لم ير مثلها من قبل.
* كيف أثر ذلك الموقف إيجابيا على رؤيتك الإبداعية؟
لقد نسيت هذه الإشاعة السخيفة تماما بعدها، ونسيت تلك الدقائق التي شاركتُ فيها أمي وخالتي المطبخ، لكن يبدو أن اللاوعي لم ينس ما حدث، وظلت هذه الحكاية تتفاعل داخله، ودون أن أفطن إلى حقيقة ما يحدث كان اللاوعي يصدر إلى حياتي الواعية الكثير من مشاعر الخوف والقلق والرعب والاختناق. لا وعي الشاعر -أيضا- هو الذي يشكل مستقبل القصيدة، وكثيرا ما يكتب الشاعر جملة ما دون أن يعرف لماذا وضعها بهذا الشكل، أو من أين أتت أصلا، وقد يحدث أن تنقشع الغيوم، أو لا تنقشع، فيرى الشاعر أو لا يرى كيف وصلت الجملة إلى القصيدة على صورتها الحالية.
* على ذكر الموت، هل الموت هو اليقين الأكبر بالنسبة لك؟
ربما لا يعرف الكثيرون أنني كنت سلفيًا حتى النخاع، خلال فترة الدراسة الجامعية، بل وصل بي الأمر إلى تكفير الحاكم، عملا بالآية القرآنية الكريمة: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”. إنني أحمد الله على أن رزقني الفهم الصحيح لهذه الآية، حدث ذلك بعد موقف سأقصه عليك بعد قليل، وإلا كنت الآن من الإرهابيين الذين يقتلون الناس. كانت لحيتي بطول شبر تقريبا، لا أمتلك صورة لي باللحية، لأن التصوير -بالنسبة للسلفيين- حرام شرعا، وكنت أمشي بين الناس ناصحا مرة، ومهددا مرة، بالضبط كجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا بقدمي تأخذانني إلى الكورنيش، فأجد فتى وفتاة في مثل سني، يجلسان على أحد المقاعد متبادلين الابتسامات الرقيقة والنظرات العاشقة والكلام الهامس، عندها امتلأ قلبي بالغيظ، وتأججت عيني بالشرر، وكدت أن أذهب إليهما مقرعا، وأجبرهما على الانفصال والعودة من حيث أتيا، لولا أن خطر في ذهني سؤالان فجأة: هل سأفعل ذلك طاعة وتقربا إلى الله أم إنني حاقد على الفتى لأنه ليس في حياتي فتاة بمثل جمال رفيقته، ليس في حياتي فتاة أصلا؟ هل أتمنى أن أكون مكانه؟ توصلت إلى الإجابة قبل أن أقترب منهما، وإذا بغيظي يتحول إلى بكاء، لقد بكيت طوال المسافة التي قطعتها من الكورنيش إلى البيت، وكان أول ما فعلته عقب دخولي هو انتزاع اللحية من وجهي، إلى الأبد، وليس في ذهني غير صورة الفتى والفتاة الجميلين. الإرهاب سببه الفهم الخاطئ للدين، لقد قرأت كثيرا عقب ذلك الموقف، وامتلأ قلبي بالرحمة والمحبة تجاه كل ما يدب على الأرض، وتجاه الجماد أيضا!
* حدثني عن الاختلاف ما بين محمد الكاتب الذي أجري معه حديثا الآن، ومحمد السلفي الذي كاد أن يتحول إلى إرهابي كما ذكرت.
الاختلاف الأكبر يكمن في أن الفكر السلفي -كما رأيته وعايشته بنفسي- يهتم بالقشور دون الجوهر، وأنا الآن أهتم بجوهر الشيء لا بقشرته
* تعبر عن مشاعرك بوضوح، هذا واضح من طريقة كلامك، فهل تعبر عن مشاعر أبطال قصصك بالوضوح نفسه؟
لست مشغولا بوصف مشاعر أبطال قصصي، ولا بالتعبير عما يشعرون به داخل أنفسهم، أترك للقارئ مهمة اكتشاف هذه المشاعر بنفسه، عن طريق الحدث الذي تقوم عليه القصة، وإذا لم يستطع الحدث أن يصدر للقارئ مشاعر بطل القصة فقد فشلت.
* حدثنا عن الملامح العامة أو الخطوط العريضة لمجموعتك القصصية الحاصلة جائزة الشارقة للإبداع العربي هذا العام.
القصص بعيدة عن الواقعية، تجنح نحو الخيال، وإن كانت تتماس مع الواقع من ناحية مقولة بيكاسو: “الفن ليس الحقيقة.. الفن كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة”. انطلاقا من المقولة السابقة فالقصص تسلط الضوء على الواقع بكشاف الخيال.
* لماذا الشعر والقصة معا؟
ولمَ لا؟ الكاتبة الهولندية الشابة ماريكا لوكاس رينفيلد أصدرت قبل روايتها الحاصلة على بوكر 2020 مجموعتين شعريتين، والشعراء الذين كتبوا الرواية والقصة، في العالم العربي و الغربي، قديما وحديثا، أكثر من أن يحصوا.
* ما هي المحطة الأبرز في حياتك ككاتب؟
أظن إنها حصول مخطوط ديواني الأول “أركض طاويا العالم تحت إبطي” على جائزة أخبار الأدب، كنت في بداياتي واحتجت معنويا إلى هذا الدعم، وربما لو لم أجد هذا الدعم والتشجيع ما نشرت الديوان، ولأهملت الكتابة، ثم حصول الديوان نفسه، بعد أن صار كتابا، على جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب في يوبيله الذهبي.
* فزت بالعديد من الجوائز الأدبية.. فهل تكتب والجائزة نصب عينيك أم تكتب بلا تخطيط لشيء معين؟
من المفترض أن أقول: أكتب دون أن تكون الجوائز في رأسي، فلا ينبغي أن أظهر أمام الناس ماديا يلهث وراء الأموال، لكني أومن أن أجمل ما فيَّ هو قبحي، وأقوى ما في الإنسان هو الضعف الذي يجعل منه إنسانا. نعم، أحيانا كثيرة أضبط نفسي وأنا أكتب قائلا إن ما أكتبه الآن سأقدمه إلى المسابقة الفلانية.
* إذا الجائزة مهمة للكاتب.. هل تعتبرها معيارًا للجودة؟
أحيانا تكون للكاتب قدم داخل الكتابة وقدم خارجها، أحيانا ييأس، بل كثيرا ما ييأس، ويفقد الرغبة في الاستمرار، ثم تأتي الجائزة لتعيد قدميه إلى الداخل. هي مهمة من باب التشجيع والدعم، ومهمة من باب الأموال، يعيش العالم في ظل ظروف اقتصادية صعبة، والكاتب مثله مثل الجميع عليه أن يشتري الطعام ليضعه في فم ابنائه، الأطفال لا يشبعون عندما تضع في أفواههم قصائد طازجة، ولا الكبار حتى، ولا يستبدل أفراد عائلتك الملابس بالمجاز، لكن الجائزة ليست معيارا للجودة، وكم من كاتب عظيم لم يحصل على شيء، محمد حافظ رجب -رحمه الله- مثلا، تعرض إلى تهميش مقصود أو غير مقصود، لا أعرف، لكنه لم يحصل على جائزة حقيقية واحدة، وسيسقط عدد كبير ممن حصلوا على تلك الجوائز من الذاكرة، لكن اسمه سيبقى خالدا.
* تبدع وتشغل الوسط الأدبي ثم تختفي لفترات طويلة..أين تذهب ولماذا تختفي؟
الكتابة واليأس لا يفترقان أبدا، وتحتاج أحيانًا إلى الابتعاد لاستعادة عافيتك النفسية، أنت تتحدث عن الاختفاء من الفيس بوك، هذا صحيح، الفيس بوك يصدر الاكتئاب ويعطي طاقة سلبية لمرتاديه، عموما التكنولوجيا عقدت الحياة بقدر ما سهلتها.
* أنت بعيد عن القاهرة المركز الثقافي الأهم، تكتب عن بعد وتعمل بعيدا عن الدوائر الثقافية وتقضي أغلب الوقت في العمل، كيف أثر هذا على شخصك وأدبك؟
أعتقد أن مركزية القاهرة قد تفتت تماما، هناك الآن كتاب ملء السمع والبصر يعيشون في طنطا وأسوان والإسكندرية.. إلخ، وكتاب يعيشون في القاهرة دون أن يسمع بهم أحد، حتى الشلل الثقافية لا تستطيع أن تحمي المنتمي إليها إذا لم يحمل أدوات الكتابة الحقيقية، لقد أزالت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة الحدود بين الدول، فما بالك بالحدود داخل الدولة الواحدة.