لم تعد صناعة الثقافة في عصرنا الحالي فعلا كلاسيكيا، يؤدى بذات القواعد القديمة التي كان الأمر يدار بها قبل 50 عاما، لم تعد المسألة مجرد كتابة جيدة يمكن بقليل من التوفيق أن تجد طريقها إلى القارئ، ولم تعد دور النشر محض مطابع تنهي مهمتها بعد طبع الكتاب، أو عقب توزيعه، فصناعة الثقافة في عصر الديجيتال ميديا تختلف جذريا عن صناعتها في عصر الصحيفة الواحدة، الزمن تغير، والقارئ تغير معه، لكن البعض لا يزال يصر على البقاء في الماضي محاربًا طواحين الهواء، راضيًا بمجموعة لا تتغير من القراء، والنقاد، في دائرة غير قابلة للاختراق ممن يقرأون لبعضهم البعض، وينقدون بعضهم البعض، ويعيشون سويا في فقاعة تعزلهم عمن سواهم.
في “أخبار الأدب” حاولنا في هذا التحقيق إلقاء نظرة على واقع الثقافة المصرية وعلاقتها بالديجيتال ميديا، كشفنا عن مواطن قوة، ونقاط الضعف، سلطنا الضوء على تجارب واعدة، وأشرنا إلى عدد من الفرص المتاحة، مستعينين في ذلك كله بشهادات لعدد من الناشرين هم عاطف عبيد مدير دار بتانة، فاطمة البودي مديرة دار العين، نيفين التهامي المدير التنفيذي لدار كيان، محمد جمال مؤسس منصة كتبنا للنشر الإلكتروني والشخصي، نورا رشاد المدير التنفيذي للدار المصرية اللبنانية، وأحمد المالكي المدير التنفيذي لتطبيق اقرأ لي للنشر الصوتي، المجموعة التي نأمل أن يكون في اجتماعها على صفحات جريدتنا ما يحرك من مياه العلاقة الراكدة بين الثقافة والعالم الرقمي، ما يعزز من نقاط القوة ويدفعها، ويساهم في حل المعضلات ونقاط الضعف..
عاطف عبيد: العرب يسبحون في مياه ضحلة
يجب النظر إلى مشكلة استخدام التقنية في العمل الثقافي كجزء من التأخر العربي في استخدام التقنية الحديثة عموما، العرب في هذا المجال لا يزالون يسبحون في مياه ضحلة، لكن رغم هذا التأخر التقني، فإن وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال ساهمت في تشكيل واقعنا الثقافي الجديد، عبر توفير مساحات خضراء لإبداء الرأي وتبادله بشكل لحظي، وعبر السماح لدور النشر باكتشاف عدد من المواهب والتواصل معها، والنشر لها للمرة الأولى، أعتقد إن المستقبل سيحمل مزيد من الاستقرار للجهود العربية المرتبكة في استخدام الديجيتال ميديا في الترويج للمنتجات الثقافية، خلال سنوات قليلة قادمة ستكون أعداد أكبر من المصريين تستخدم وسائل الدفع الإلكترونية، وخدمات مثل فوري وغيره، انتشار هذه الوسائل والخدمات سيساعد في تعميق الجهود ناحية التوجه إلى الديجيتال ميديا.
الأشكال المختلفة من الثقافة في تقديري ليست متصارعة أبدًا، أنا لا يهمني كيف يتلقى القارئ المعلومة، في شكل نص ورقي، أو في شكل مسموع، المهم أن يتحقق الإدراك والمعرفة، توفر وسائل إلكترونية للدفع وإقبال القراء على شراء الأشكال المعرفية المختلفة سيدفع بدور النشر إلى طرح مزيد من الكتب الإلكترونية، سيدفع إلى تحويل مزيد من الكتب إلى محتوى صوتي، وهكذا، ندرك في “بتانة” أهمية الاستعداد للمستقبل، لدينا مبادرة لتجميع القراء على وسائل التواصل الاجتماعي تحت اسم “نادي القراء المحترفين”، نحاول استقطاب وبناء الجمهور لكل دور النشر، ومن ثم يمكن لهذا الجمهور أن يدفع العلاقة بين الثقافة والديجيتال ميديا بقوة العرض والطلب، سنعيد أيضًا بعد معرض الكتاب إطلاق متجرنا الإلكتروني، ولدينا مشروع تطبيق إلكتروني نعمل عليه مع إحدى الجهات الحكومية وسنعلن عنه في حينه.
فاطمة البودي: حتى شهرين كنا ندير حساباتنا بالجهود الذاتية
كنا في دار العين من أوائل من تنبهوا لأهمية الديجيتال ميديا، استخدمنا فيس بوك على مستوى واسع، نفذنا إعلانات للإصدارات، نشرنا صور الندوات وفعاليات صالون العين الثقافي، ووصلنا إلى البث المباشر مع تطور الديجيتال ميديا، التكنولوجيا ساعدتنا على التواصل مع جميع الأقطار العربية، فإصداراتنا ليست فقط لكتاب مصريين ولكنها أيضا لكتاب عرب، لم نجر مع بعضهم أي اتصال مباشر، لكن مجموعة من الاتصالات الرقمية، نحن مهتمون جدًا في “العين” بمواكبة التطورات الرقمية، اكتشفنا مؤخرًا إن القراء في الخليج العربي لا يستخدمون فيس بوك كمنصة تواصل رئيسية ما دفعنا إلى استخدام منصات أخرى لم نكن نستخدمها مثل تويتر وانستجرام، نتعلم بشكل يومي في هذا المجال، حتى شهرين مضوا كنا ندير حساباتنا على مواقع التواصل بالجهود الذاتية، لكننا أدركنا مؤخرًا ضرورة وجود متخصص في الديجيتال ميديا، وقمنا بتعيين واحد، رغم كل هذا يؤسفني القول إن الديجيتال ميديا لم تعطنا بعد ما ننتظر من ورائها، لم نكسب ولم نحقق أي مردود مالي بعد من النسخ الإلكترونية للكتب، رغم تعاقدنا مع منصات رائدة في هذا المجال.
ندرك أيضًا أهمية تحويل الكتب من صورتها الورقية إلى صور إبداعية مختلفة ومناسبة أكثر لعصر الديجيتال ميديا، لكن مثل هذا الطرح يجب أن يوجه بالأساس للمنتجين، لا لدور النشر، لدينا اتصالات مع بعض المنتجين لكن الأمور لا ترقى إلى مرحلة التنفيذ، مجرد كلام، رغم النجاح الكبير الذي حققه فيلم “ستموت في العشرين” المستوحى من مجموعة “النوم عند قدمي الجبل” الصادرة عن الدار من تأليف حمور زيادة، نود التواصل والتعاون مع الجميع، ونأمل أن يرقى الحديث الدائر حاليا عن تحويل بعض روايات الدار إلى صور إبداعية مختلفة إلى مرحلة التنفيذ قريبًا.
نيفين التهامي: بدأنا في جني ثمار اهتمامنا بالديجيتال ميديا
نحن مهتمون جدًا بالديجيتال ميديا، الدعاية الجيدة على وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر بشكل كبير على المبيعات بكل تأكيد، لكن الأهم من المبيعات هو التأثير الإيجابي الذي أحدثته الديجتال ميديا بالنسبة لاسمنا وعلامتنا التجارية، لدينا الآن جمهور يثق في جودة إصداراتنا وينتظرها، ما يعني أننا نحقق مكسب مزدوج، أعتقد إن دور النشر المصرية أضحت الآن مهتمة بشكل حقيقي بمسائل التسويق الرقمي، والأمر يشهد تطورًا كبيرا في السنوات الأخيرة، لا أقول إن كل شيء وصل ذروته، لكن أقول إن هناك تطور كبير، يدفعنا في السنوات المقبلة إلى التوجه ناحية تحويل الأعمال الروائية إلى أشكال ووسائط فنية مختلفة عن مجرد نشر النص ورقيا.
محمد جمال: أزمة صناعة نشر وليست أزمة ديجيتال ميديا!
في تقديري المشاكل التي تواجه عملية التحول الرقمي لدور النشر هي جزء من أزمة صناعة الكتب في مصر بشكل عام، النشر لدينا نشر موسمي مرتبط بمعرض الكتاب، وعدد كبير من دور النشر يعمل بالأساس كمطبعة غرضها تحقيق ربح سريع، لا كدار نشر تتحمل مسؤوليات كبرى تجاه القارئ والكاتب، وتجاه الثقافة في البلد، لدينا دور نشر تطبع 500 نسخة فقط من الكتاب، في حين تطبع دور النشر الأجنبية آلاف النسخ للكتاب المبتدئين في أوروبا وأمريكا، طبيعي أن يكون لدينا مشاكل في التحول الرقمي، ومواكبة عصر الديجيتال ميديا كعرض من أعراض تأخر صناعة النشر ككل، الحديث عن عدم المكسب من النسخ الإلكترونية، أو عن عدم جدوى توجيه استثمارات كبيرة إلى رقمنة الثقافة محض هراء، بعض الروايات على مواقع القرصنة يتم تحميلها آلاف المرات، بعض الروايات يتخطى معدل قراءتها على مواقع القرصنة مجموع ما تم بيعه من نسخها الورقية، ما يعني أن هناك جمهور متعطش لثقافة رقمية تتجاوز الأشكال التقليدية الشائعة حاليًا، إذا كانت الدور لا تستفيد من هذا الجمهور، ولا تضع في حسبانها الأجيال الجديدة المتجاوزة لفكرة الثقافة الورقية فإن المشكلة تصبح مشكلتها هي لا مشكلة الجمهور.
دور النشر يجب أن تنتبه جيدًا للصعود الكبير للجيل (Z)، بعد سنوات طالت أو قصرت سيكون هذا الجيل هو المحرك الرئيسي للسوق، والممتلك الأول للقوة الشرائية، وسيبحث عن إشباع احتياجاته الثقافية بطرق إلكترونية تتناسب والهواتف الذكية التي لا تفارق يده، فإن لم نكن مستعدين لذلك من اليوم عبر استثمارات طويلة المدى، فإن هذا الجيل سيلجأ لبدائل أخرى، سواء عبر القرصنة، أو باللجوء لكتب ووسائط معرفية أجنبية، أو حتى بهجر الدائرة كلها إلى تطبيقات إلكترونية منافسة، ووسائل تواصل اجتماعي بديلة.
إذا كان هناك دور نشر تحركت، وأتاحت كتبًا على منصات إلكترونية مثل فودافون كتبي، وجوجل بلاي وأبجد وغيرها، فإن هذا التحرك يظل محدودًا جدًا، لا يمثل شيء من المكتبة الغنية التي تمتلكها هذه الدور، ناهيك عن كون هذه النسخ المتاحة إلكترونيا تماثل في سعرها نظيرتها الورقية تقريبًا، أو تقل بفارق ضئيل، لا يتناسب مع حديث الناشرين الدائم عن الطباعة وتكاليفها كسبب رئيسي لغلاء أسعار الكتب، بكل أسف ينظر بعض الناشرين تحت أقدامهم، يريدون ربحًا فوريًا من الأشكال الإلكترونية للكتب، رغم إن أي استثمار يتطلب بالضرورة الصرف عليه لسنة واثنين وثلاثة إن لزم الأمر قبل أن يغطي تكاليفه.
هذا الحديث عن صناعة النشر وجهود الرقمنة، يقودنا أيضًا إلى ضرورة تحول دور النشر إلى وكيل أدبي، بالمعنى الكامل المتواجد في أوروبا، أي أن تكون كل مهمة المؤلف هي الكتابة والإبداع، في حين تكون مهمة الوكيل الأدبي هي تسويق هذه الحقوق ورقيًا وإلكترونيًا، وتحويل هذه الكتب إلى إصدارات صوتية، وبيع حقوقها للمسرح والتلفزيون وغيرها، بهذا الفكر يمكن للصناعة أن تخطو خطوات واسعة للأمام، خاصة وأن المستقبل يحمل دلالات كبيرة على حاجة السوق إلى مزيد من الروايات والكتب التي يمكن تحويلها إلى شكل مرئي، خدمات المشاهدة حسب الطلب مثل نتفيلكس وديزني وغيرها ستفتح أبواب غير مسبوقة، وإذا كانت البداية بمسلسل عن سلسلة روايات ما وراء الطبيعة لدكتور أحمد خالد توفيق، فإن السنوات القادمة ستشهد في تقديري مزيدًا من الطلب على الروايات الناجحة بدفع من قوة نتفيلكس الإنتاجية، وعلى المؤلفين والناشرين أن يكونوا مستعدين وإلا سيتجاوزهم الزمن.
نورا رشاد: نحقق أرباحًا من النشر الإلكتروني والصدفة قادتنا إلى تويتر
بداية أختلف مع بعض الناشرين الذين يهملون التقنيات الحديثة التي يمكن أن تساعد صناعة النشر في مصر، في المصرية اللبنانية استفدنا كثيرًا من النشر الإلكتروني من دون أن يؤثر ذلك على الكتاب الورقي، الكتاب الإلكتروني لا يكلفنا شيء، نجهز نسخته مع النسخة الورقية، ونطرحه بسعر أقل، لأنه يوفر علينا ثمن الطباعة وتكاليف التخزين، نؤمن بضرورة مواكبة تغيرات السوق، فننفق شهريا على وسائل التواصل الاجتماعي، ونوظف مختصين لإدارتها، كما نرحب دائمًا بجميع أشكال النشر الرقمي، بما في ذلك التعاون مع تطبيقات الكتب الصوتية لإتاحة الكتب في صورة مقروءة، أو مع المنتجين السينمائيين والتلفزيونيين الذين يشترون حقوق بعض الروايات الصادرة عن الدار، ويحولونها إلى أفلام أو مسلسلات تصبح أسهل في الانتشار بين الناس وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
بالطبع لا يمكن القول إن كل شيء دقيق بنسبة 100%، بعض الأشياء تغيب عنا، لكن التجربة والوقت يصححان الأمور دائمًا، في معرض من معارض المملكة العربية السعودية فوجئنا بنفاد كل كتب الأستاذ عبد الوهاب مطاوع بشكل لافت جدًا للنظر، ثم اكتشفنا لاحقًا أن أحد مشاهير تويتر في المملكة نشر صورة له مع كتاب للأستاذ عبد الوهاب مطاوع، ما شجع متابعيه على اقتناء جميع كتب المؤلف الراحل، أدركنا بعد هذا المعرض أهمية وسائل التواصل المختلفة، فأصبحنا نوجه حملاتنا الدعائية بما يناسب كل بلد، وبما يتفق مع الجمهور هناك.
أحمد المالكي: أدخلنا من لا يحبون القراءة إلى عالم المعرفة!
مهمتنا في “اقرأ لي” هي توفير المحتوى للجمهور بطريقة تناسب الزمن الحالي، المتلقي الآن مرتبط بهاتفه الذكي، يريد أن يظل متصلا به في السيارة، وفي الشارع، وفي كل مكان، نحن نوفر محتوى مناسب لكل مكان، دور النشر شركاء رئيسيين في هذه المعادلة، الناشرون يريدون تحقيق انتشار أكثر، يريدون فتح أسواق جديدة لكتبهم، الكتب الصوتية تحقق ذلك بسعر منافس جدًا، وباشتراكات شهرية في متناول الجميع.
استطلاعات الرأي الخاصة بنا وجدت أن التطبيق استطاع اجتذاب ليس فقط محبي القراءة الذين يريدون المحتوى في صورة أكثر عصرية، ولكن أيضًا فئة غير مهتمة بالكتب أصلا تستمع إلينا لأنها وجدت في هذه الطريقة الصوتية لعرض المحتوى متعة تضاهي المسلسلات الإذاعية القديمة، عنصر الإمتاع يهمنا كثيرًا، ونهتم جدًا بتجربة المستخدم، لذلك لا نقدم للجمهور مجرد قارئ يقرأ الكتاب إلى جوارك، ولكن نقدم صناعة كاملة، تقوم على تدريب المذيع، إضافة المؤثرات الصوتية والموسيقى المناسبة، لتوفير أجواء تقرب المعرفة من الأجيال الجديدة، وتطرحها في صورة رقمية غير تقليدية.
هناك تحمس كبير من بعض المؤلفين والناشرين لتجربتنا، كتاب دكتور يوسف زيدان فردقان صدر لدينا مسموعًا قبل أن يصدر مقروءًا، وبعض كتب أورخان باموق صدرت في صورة مسموعة في نفس يوم صدورها ورقيا عن دار الشروق، هذا الحماس يسعدنا جدًا، ويشجعنا على مزيد من العمل لجذب عدد أكبر من المستخدمين والكتاب أيضًا، فنحن لا نعتبر أنفسنا مجرد وسيلة نشر إضافية، لكننا نعد أنفسنا مشروعًا ثقافيا يمكن أن يساهم في زيادة التعريف بالكتاب الجيدين من الشباب، خصوصًا وأن “اقرأ لي” يملك الآن مستخدمين أكثر خارج مصر، مقارنة بعدد المستخدمين في مصر!