على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، عقدت بالقاهرة ندوة بعنوان “يوسف شاهين … 10 سنوات على رحيله” أدارها المخرج أمير رمسيس، وتحدث خلالها كلًا من المخرج سمير سيف والمنتج هشام سليمان عن ذكرياتهم مع المخرج الراحل الكبير.
خلال الندوة تحدث أمير رمسيس عن تأثره بيوسف شاهين الذي بدأ مبكرًا حين ذهب مع والده لمشاهدة فيلم “اسكندرية كمان وكمان” والذي كان سببًا في تغير نظرته إلى السينما، وإلى ما يمكنها أن تصنعه، فقرر أن يصبح مخرجًا، وعمل في شركة أفلام مصر العالمية -المملوكة لشاهين- بعد ذلك، وأسند إليه شاهين مسؤولية الإشراف على بروفات الرقص والموسيقى حين لاحظ ولعه الشديد بهما.
من جانبه قال المخرج سمير سيف أن الفيلم الذي حببه في مهنة الإخراج هو فيلم “صراع في الوادي”، مؤكدًا أنه شاهده ما يقرب من 200 مرة كي يحفظ المشاهد، وأشار سيف في حديثه إلى تأثر شاهين بالمخرج الأميركي إيليا كازان، وبالمخرج المصري عز الدين ذو الفقار الذي منح شاهين فرصًا غيرت مسار حياته، حين رشحه لإخراج فيلم “جميلة بوحريد”، وكذلك فيلم “الناصر صلاح الدين” الذي تنازع على إخراجه عدد من المخرجين بعد مرض ذو الفقار الذي كان من المقرر أن يخرج هو الفيلم، وجاءت وصية المخرج الراحل للمنتجة آسيا لتحسم الأمر ولتوجه الفيلم لشاهين.
أما المنتج هشام سليمان فقال أن شاهين كلفه بمنصب مدير الإنتاج في فيلمه “المصير” وأنه استفاد من وجوده إلى جواره، مشيرًا إلى نصيحتين اسداهما إليه شاهين والتزم بهما طوال حياته “لا تكذب أبدًا في العمل، ولا تكن فهلويًا”
رحلة في الاتجاه المعاكس
على عكس التيار، وفي الوقت الذي كان الاتجاه العام في مصر مائلًا ناحية إحياء الذكرى العاشرة لوفاته شاهين بإقامة الندوات للحديث عن سينماه، أو تكريم اسمه في المهرجانات السينمائية المختلفة كما حدث في مهرجاني شرم الشيخ والأقصر للسينما الأفريقية، كنا في “زهرة الخليج” نخوض رحلة في الاتجاه المعاكس، تستهدف إعادة طرح ما رآه البعض مشكلات في سينما يوسف شاهين، وتقييم التجربة السينمائية العظيمة للرجل وفق معايير الصناعة التي تغيرت كثيرًا منذ وفاته، ليس فقط بعيون مخرجين ونقاد من أجيال مختلفة، ولكن بعين يوسف شاهين نفسه.
– أفلام معقدة
“أخرج من هذا الفيلم بإحساس كامل بالاحباط بل بالغضب، إن فنانًا سياسيًا واعيًا مثل يوسف شاهين لا يمكن أن يقول كلمته للناس بهذه اللغة، ولا يمكن أن يظل يصنع أفلامه للنقاد والمهرجانات، لأن دوره هو بالذات أن يقدم لجمهورنا البديل لسينما نيازي مصطفى وحسن الصيفي وحسن الإمام، وإذا كان “الابن الضال” هو البديل فإن حسن الإمام يكسب بكل تأكيد”
- الناقد السينمائي سامي السلاموني، مجلة الإذاعة 2 أكتوبر 1976، من مقال بعنوان “عاد فلم يفهمه أحد”
البداية كانت مع الناقد السينمائي أندرو محسن، سألناه عما اشتهر عن كون أفلام شاهين معقدة وغير مفهومة بالنسبة للجمهور وأنها موجهة للنقاد والمهرجانات بشكل كبير، فأجاب: “شاهين بدءًا من فيلمه الاختيار لم يعد مخرجًا جماهيريًا، وهذا لا يعيبه، عالميًا هناك العديد من المخرجين العظام الذين لا تحقق أفلامهم إيرادات أو حضور قوي في شباك التذاكر، إضافة إلى أن هذا الأمر تحول بعد فترة إلى “سمعة”، تم تداولها على إنها حقيقة مطلقة، لدرجة أن بعضًا ممن لم يشاهدوا أفلام يوسف شاهين أصلًا يتهمونه بالتعقيد والتفلسف تماشيًا مع الموجة”
– مخرج أم سيناريست؟
والحق أن مسألة الصعوبة في فهم أفلام “جو” كما كان يحب أن ينادى، تأتي من كونه فكك بنية القصة التقليدية واعتمد أساليبًا جديدة في الحكي، خلقت نوع من الجدل والمطالبات بوقف تدخله في السيناريو على اعتباره غير متخصص ويفسد أفلامه بهذا التدخل، من ذلك ما كتبه الناقد السينمائي سامي السلاموني في مقاله لـ”الإذاعة”بتاريخ 22 سبتمبر 1979: “القضايا في أفلامه الأربعة الأخيرة واضحة جدًا …لكن أسلوب التعبير عنها غامض جدًا ومليء بالتخبط والتشويش … أدعو للحجر عليه، ومنعه بحكم القانون من الاقتراب من مسألة السيناريو والحوار والمونتاج، إذا كان هذا ممكنًا، فلدينا مخرج عظيم ولابد أن نحميه من نفسه”.
الأمر الذي يعلق عليه المخرج أمير رمسيس قائلًا: “مع احترامي الكبير لجيل نقاد الثمانينيات، وإسهاماتهم السينمائية الواسعة، إلا إنهم كانوا منحازين إلى أنواع فيلمية معينة، وكان التفكيك الذي قام به شاهين في بنية القصة التقليدية يزعجهم كثيرًا”، الأمر الذي يتفق معه الناقد السينمائي -صاحب كتاب السينما والرقص على الحبال المشدودة- كريم فرغلي حين يؤكد رفضه لتعبير الحجر على يوسف شاهين لمنعه من التدخل في السيناريو، موضحًا إنه “ليس من حق أحد المصادرة على رؤية المبدع، أو التدخل في طريقة صناعته لفيلمه، أقصى ما يمكن للناقد فعله هو تقييم العمل الفني بعد صدوره، هذا أولًا، ثانيًا جزء من زخم يوسف شاهين هو هذا التنوع الشديد في أفلامه، والذي أتى جزء منه نتيجة للمساته على السيناريو”.
في حين يعترف أندرو محسن أن مستوى شاهين وإضافاته على السيناريو كانت متذبذبة للغاية، فجاءت بعض الأفلام قوية وعميقة، في حين جاء بعضها ضعيفًا، في حين أنه على مستوى الإخراج لم يتذبذب أبدًا، وقدم كل أفلامه بقوة وبتأثير بصري عظيم حتى في أضعف أفلامه، ما يجعله يحب الرجل كمخرج أكثر منه سيناريست، مع إقراره بحقه التام في الكتابة وعدم المصادرة على أي مبدع.
– يصادر حق ممثليه في الإبداع؟!
وعلى ذكر مسألة المصادرة على الإبداع طرحنا على ضيوفنا الثلاثة سؤالًا حول ما واجه “شاهين” من اتهامات تتعلق بقولبته لممثليه ومحاولة التأثير على طريقتهم في التمثيل، والحق أننا لم نكن نشير فقط إلى الاتهامات النقدية التي طالت شاهين بهذا الخصوص، ولكن كنا نتحدث بشكل أكبر عن شهادات موثقة لبعض من عملوا مع شاهين ولعل أبرزهم محسن محيي الدين -الممثل المفضل لدى شاهين- الذي قال في حوار تلفزيوني لفضائية CBC المصرية: “في (اسكندرية ليه) وفي (حدوتة مصرية) ترك لي شاهين الحرية في التمثيل، لكنه ابتداءً من وداعًا بونابارت بدأ في “تكتيفي” ومحاولة جعلي أمثل مثلما يمثل هو، الأمر الذي استمر في (اليوم السادس) ما جعلني أعتذر عن العمل معه”.
ورغم شهادة محيي الدين إلا أن الثلاثة -أمير وأندرو وكريم- نفوا عن شاهين هذه التهمة تمامًا، فأكد أمير رمسيس على كونه عمل مع شاهين في ثلاثة أفلام، لم يشاهده في مرة واحدة يوجه الممثل للتمثيل بطريقة معينة، “كان شاهين حريصًا على أن يفهم الممثل لماذا يؤدي هذا المشهد، ثم يتركه بعد ذلك إلى إبداعه الشخصي دون تقييد بطريقة، أعتقد أن التأثير الذي أحسه الجمهور لم يكن متعمدًا، الأمر غير متعلق بشاهين فقط، بعض المخرجين الكبار يؤثرون فيمن حولهم، ممثلات ممن عملن مع حسين كمال يحتفظن إلى الآن بطريقته في الحديث حتى في حياتهم اليومية”
المعنى الذي ذهب إليه أندرو محسن حين قال: “إن من تأثروا بشاهين كانوا من الممثلين الأقل خبرة وموهبة ما جعلهم مقلدين لأدائه، وأبرز دليل على ذلك أن كبار الممثلين الموهوبين من أمثال محمود المليجي، محسنة توفيق، ونور الشريف، وغيرهم لم يقعوا في هذا الفخ”
وفي حين يتفق كريم فرغلي مع نقطة مسؤولية الممثل، يذهب إلى أبعد من ذلك مؤكدًا على حق المخرج في إدارة فريق تمثيله بما يحقق رؤيته “لا يوجد مخرج عنده رؤية ويحترم نفسه، سيترك كل ممثل يمثل بالشكل الذي يحلو له، هناك بالتأكيد خطوط عريضة يفرضها المخرج، غير أنه من الظلم القول بأن شاهين كان خانقًا لإبداع ممثليه، الرجل اكتشف العديد من الممثلين، وأعاد اكتشاف آخرين، أذكر أنه كان يقول محمود المليجي ظل يضرب ويُضرب في الأفلام 30 سنة ولم تعرفوا أنه ممثل جيد إلا حين عمل معي”.
ولعل من المهم هنا أن نورد شهادتي كلًا من الممثل القدير محمود حميدة والصحفي المصري بلال فضل حول هذه المسألة الشائكة، فحميدة الذي سبق وقدم أعمالًا مهمة مع شاهين، يرى أن الرجل كان يعتمد تكنيكًا خاطئًا في توجيه ممثليه إلى الحالات الشعورية التي يريدها، فلو كان المشهد حزينًا مثلًا فإنه ينظر إلى عيني الممثل ويحاول أن يذكر الممثل بمآسيه وأحزانه، حتى يظفر بدموعه في النهاية، ويرى حميدة بحسب ما قال على هامش مهرجان الجونة السينمائي، أن هذا الأسلوب يؤثر على بعض الممثلين ولا ينقل الحالة الشعورية للشخصية الروائية بقدر ما ينقل الحالة الشعورية للممثل نفسه، ما رفضه حميدة حين عمل مع شاهين، “بيقولي بص لي في عنيا، قلت له لأ بص لي أنت في وداني، قولي اللي عايزني أوصله وأنا هعمله”.
وبقدر ما تبدو شهادة “حميدة” -في ظاهرها- مؤيدة لوجهة نظر محسن محيي الدين عن تحكم شاهين في ممثليه، إلا أنها في حقيقة الأمر تبرئ الرجل من تهمة تعمد التأثير أو خنق إبداع ممثليه، بدليل سماحه لحميدة وغيره بالأداء بالشكل الذي يريدونه طالما يحقق أهدافه ورؤيته الفنية، أما حديث “محيي الدين” فلا يمكن إعتباره إلا حادثة فردية يدفعها بالأساس الحب الشديد الذي كان شاهين يكنه له، فهو ممثله المفضل، وابنه الذي لم ينجبه بحسب كثيرين، والذي تأثر كثيرًا بانفصاله عنه، وكانت وصيته أن يحضر جنازته.
تجد هذه الفرضية ما يعززها إذا وضعنا في الاعتبار ما صرح به شاهين لبلال فضل عن التغيير الكبير الذي أحدثته محسنة توفيق على شخصية أمه في “اسكندرية ليه؟” ما دفع شاهين إلى إبعاد والدته لفترة طويلة عن مشاهدة الفيلم حتى لا يسبب لها الضيق، مشيرًا إلى أن تنفيذ الشخصية بهذه الطريقة كان من إبداع محسنة توفيق، وأن والدته حين شاهدت الفيلم قالت “جميل ولكنها ليست أنا”، الأمر الذي يعلق عليه “فضل” في برنامجه (الموهوبون في الأرض) مشيدًا ب “جو” الذي لا يجد حرجًا في تعديل رؤيته إذا ما اقتنع بوجهة نظر أو أداء مختلف، لكن هل كانت مسألة الممثلين أزمة “جو” الوحيدة؟ … بالطبع لا.
– خلافات طبيعية أم تحكم وغرور؟
فعلى امتداد الخط نفسه -مسألة المصادرة والتحكم في الآخرين- سألنا عن أزمات شاهين مع مؤلفي أفلامه، أو المساعدين في الكتابة، فحياة المخرج الراحل الكبير لم تخل من خلافات حادة الملكية الفكرية لسيناريوهات الأفلام، وحقه كمخرج في التصرف في الأفكار وفقًا لرؤيته، لعل أبرز هذه الخلافات خلافه الحاد والشهير مع الكاتب الكبير يوسف إدريس حول فيلم “حدوتة مصرية”.
يقول أمير رمسيس عن هذا الأمر: “أي كتابة مشتركة من الممكن أن تحدث مشكلة كبيرة، لأن هناك مزيج يصنع أثناء رحلة الكتابة نفسها، أثناء التفاعل بين المخرج والمؤلف، هذا المنتج الجديد يولد النزاع بين المخرج والمؤلف على ملكية العمل وانتماء الأفكار، هذه مشكلة ليست مرتبطة بشاهين فقط، أحب فقط أن أؤكد أن الرجل لم يسطُ على أحد أبدًا، وعلى أي خلاف مع مؤلف أو سيناريست كان المخرج الراحل حريصًا على منح الحق الأدبي على التترات وإن اختلفا على ملكية الأفكار”
وعن مسألة الغرور وتضخم الذات التي طالما اتهم بها الرجل، يقول أندرو محسن: “من ينظر إلى شاهين في أخر سنوات حياته يظنه مغرورًا كبيرًا، هجوم على كل ما لا يعجبه، لسان حاد للغاية، وعدم اعتداد بالآراء النقدية أو الفنية، ولكن المحير في شخصية الرجل أنه كان دائم التجديد، الرغبة في الاكتشاف، البداية من الصفر، هذه ليست سمات مغرورين، إن كان مغرورًا كان سيصر على نوع واحد يكرره كل مرة على اعتبار أنه ذروة الكمال، لكن حياة يوسف شاهين تقول غير ذلك، الأمر محير جدًا في الحقيقة”
– ناقل أم مبدع؟
ورغم أن أغلب من عملوا مع شاهين نفوا عنه تهمة الغرور، إلا أن مزاجه المتقلب، ولسانه الحاد خلقوا له الكثير من العداوات، وجعلته عرضة للنقد العنيف الذي وصل حد اتهامه بالسرقة والنقل عن الآخرين أمثال الإيطالي فيليني، الأمر الذي ينفيه كريم فرغلي بشدة قائلًا: ” تأثر يوسف شاهين ببعض المخرجين الأجانب لا يقلل منه أبدًا، فحتى لو كان متأثرًا بغيره فهو أول من نقل هذه الأساليب والتكنيكات إلى السينما العربية، الإبداع يتغذى على الإبداع، الفيصل هو الخصوصية وقيمة التجربة ومدى الإضافة التي حققها، أرى هذا الاتهام سخيفًا للغاية، ربما يعود إلى معارك فنية أو عداءات شخصية مع المخرج الراحل”
– يوسف شاهين والرقابة
وعلى ذكر المعارك سألنا عن علاقة يوسف شاهين بالرقابة، وما أثير عن كونه كان مدللًا هناك يقبل منه ما لا يقبل من غيره، ويصرح له بأفلام ومشاهد لا يتصور أن تقبلها الرقابة، المخرج الذي عانى من الرقابة قبل تمرير فيلمه “يهود مصر” أمير رمسيس يؤكد أن المشكلة ليست مشكلة شاهين، “الرقابة في مصر لا تعتمد معايير ثابتة، الأمر مرتبط بقوة المبدع، ومدى قدرته على الأخذ والرد، إن كانوا مرروا لشاهين ما لم يمرروا لغيره، فالأمر ليس حبًا فيه ولكن لأن المعركة بينهم وبين شاهين كانت ستضرهم أكثر مما ستنفعهم، فكلما علت قيمة المبدع كلما فتح لنفسه مساحة أكبر”
وإذا كان رمسيس يرى أن الرقابة كانت أقل حدة مع شاهين، فإن فرغلي لا يوافق على هذا الطرح، إذ يرى أن “جو” عانى كثيرًا من تعنت رقابي، ويضرب مثلًا بفيلم المهاجر الذي خصص له جزءًا في كتابه الأخير “كان بين شاهين والرقابة سجالات عنيفة، ومحاولة تصويره على إنه كان مدللًا فيها ظلم له”.
– أفلام سيئة في نهاية الرحلة
ويرى فرغلي أن الزخم الذي أحاط بالمخرج المتوفى في السابع والعشرين من يوليو عام 2008 ظلمه بقدر ما أعطاه، فالكثير من القضايا لم تكن لتهول بنفس الطريقة إذا لم ترتبط باسم شاهين، استبدال ممثلة بممثلة، خلاف مع مؤلف، تأثر بمخرج أجنبي، كلها أشياء لم تكن لتثار لولا أن بطلها يوسف شاهين، ويضرب الكاتب بمجلة فرجة الفنية المصرية وجريدة المقال مثالًا بمقارنة البعض أفلام شاهين بعضها ببعض، ويرى أن في الأمر نوع من الظلم، إذ ينبغي معاملة كل فيلم كوحدة مستقلة، إذ تتميز أفلام يوسف شاهين بتنوع رهيب يجعل من المستحيل مقارنتها ببعضها.
على الجانب الأخر يرى أندرو محسن أن الاعتراف بالضعف الفني لبعض أفلام يوسف شاهين الأخيرة لا يقلل من قيمته كمخرج عظيم، ولكن يعطي تقييمنا لتجربته حيادية، ويعقب أمير رمسيس على مسألة الضعف الفني لبعض أفلام المخرج الراحل قائلًا “يوسف شاهين هو أكثر المخرجين المصريين شهرة، وهو الوحيد تقريبًا الذي يعرف الجمهور العادي اسمه وصورته، الرجل صنع أكثر من 35 فيلمًا، ليس منطقيًا أن تكون جميعًا في مستوى واحد، المهم أن مجمل التجربة يظل عظيمًا ومتنوعًا كما لم يفعل غيره”
المتمرد السكندري …’’المجنون’’
هي تجربة إذًا، تجربة مبدع حقيقي، ترك للسينما العربية إرثًا عظيمًا، وحياة لم تعرف يومًا الجمود وامتلأت دومًا بالصخب، الصخب الذي ربما هو من صنع شهرته الواسعة، وعرف الناس به، ف “جو” يكاد يكون المخرج العربي الوحيد المعروف للجمهور العادي على اختلاف طبقاته، الرجل الذي تمرد على السينما الاستعراضية التقليدية السائدة في مصر في الخمسينيات فقدم “صراع في المينا” و”صراع في الوادي”، ثم وقف الجمهور في طريق حلمه تقديم سينما مختلفة حين حطموا السينمات بعد عرض “باب الحديد” وبصق أحدهم على وجهه، لم ينكسر وعاد ليحقق ذروة مجده السينمائي في “الناصر صلاح الدين” 1963 في “الأرض” عام 1969، قبل أن يتمرد على ذاته ويقرر أن يغير طريقة السرد كليًا ويبدأ من الصفر في تقديم سينما جديدة ومختلفة عما قدمه شخصيًا ووصل فيه للذروة، فقدم الاختيار في 1971 ليبدأ به مرحلة كتابة انقلابية جعلت من صفقوا لعمله في “الأرض” يقرعونه على ما يفعل في موجته الجديدة، ورغم موجة الهجوم العالية لم يكترث المتمرد الكبير لأحد، وفاجئ الجميع بالفوز بالدب الفضي في مهرجان برلين عام 1979 عن فيلمه “اسكندرية ليه؟” والذي هاجمه النقاد في مصر بضراوة شديدة، وفي 1997 يحصل يوسف شاهين على جائزة الإنجاز العام من مهرجان كان السينمائي عن مجمل أعماله، ذروة مجده الفني، تكريم عن مسيرة إخراجية استمرت –وقتها- لأكثر من 47 عامًا، فماذا يفعل، هل يثبت مكانه ويكتفي بما قدم؟
ينقلب ’’المجنون’’ كما كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يحب تسميته على كل ما قدم،على كل ما حصل على الجائزة لأجله ويبدأ مرحلة جديدة يراها النقاد هي الأضعف فنيًا في حياة شاهين، المرحلة التي بدأت بالمصير 1997 وانتهت بهي فوضى 2007، ليفجر مفاجآة كبرى في حواره مع بلال فضل الذي ذهب إليه غاضبًا بعد فيلمه “الآخر” الذي رأى فيه ابتعادًا عن سينما يوسف شاهين الذي يحبها، حين يخبره أنه يرى “الآخر” أفضل فنيًا من كل أفلامه السابقة وأنه يتفق مع كل من اتهموا أفلامه السابقة بالغموض لأنه فشل في كتابتها بطريقة صحيحة سابقًا، ما تسبب في إرباك الجمهور وصناعة حاجز بين فنه وبينهم!
ربما لن تجد أحدًا -على الإطلاق- يوافق شاهين في ما ذهب إليه من نقد لأفلامه قبل الآخر، وثناء على ما يعد الحلقة الأضعف في كل مراحل حياته، لكنك لا تملك سوى الإعجاب بهذا المتمرد، سوى التعلم من تجربته الفنية الرائعة، ولن تتعلم من كل ما احاط به من جدل، سوى أن الفن الحقيقي يبقى ويثير المناقشات حتى بعد وفاة صاحبه بعشر سنوات، في حين يندثر المقلد والتقليدي الخالي من الإبداع حتى وإن مر هادئًا ولم يهاجمه أحد، وأثنى عليه الجميع في وقته.