ربما لم يثر مخرج عربي ما أثاره يوسف شاهين من الجدل النقدي والجماهيري حول أعماله، ف “جو” -كما كان يحب أن ينادى- أستاذ في فنون التمرد، والتجريب خارج الأطر المستقرة، ولذلك فإنه لا يمكن النظر إلى مسيرته الفنية باعتبارها كتلة واحدة، ولكن يجب تقسيمها إلى مراحل، يمثل تباينها، وتطورها لب عبقرية شاهين ومرونته.
يقول الأديب والناقد السينمائي أحمد عبد المنعم: “كانت سينما يوسف شاهين متنوعة للغاية، قدم أفلامًا كوميدية، وأفلامًا تاريخية، وأخرى تعتمد على الإثارة والحركة، ويمكن القول أنه في خلال العشرين عامًا الأولى كان يحاول إيجاد صوت نفسه، بكل تأكيد قدم بعض الأعمال التي حملت سماته الفنية، غير أنها لم تكن بالنجاح أو القيمة الفنية التي جاءت مع أعماله التي تلت نكسة يونيو عام 1967”.
شاهين: هذا الفيلم أنكره تمامًا.
قدم شاهين من بعد يونيو67 ستة أفلام، هي “الناس والنيل، الأرض، الاختيار، العصفور، عودة الابن الضال، وأخيرًا اسكندرية ليه؟” وتعد هذه المرحلة هي الأقدر على التعبير بشكل شبه كلي عن مسيرته الفنية.
ورغم كون القائمة النظرية لأفلام شاهين في هذه الفترة تتكون من 6 أفلام، إلا أن الرقم الحقيقي هو خمسة، إذ بدأ تصوير فيلم “الناس والنيل” عام 1964 بهدف توثيق عملية بناء السد العالي وأحاطت به مشاكل أدت لتصويره مرتين بأبطال مختلفين، وبشكل لم يرض “جو” نهائيًا ما دفعه لأن يتبرأ لاحقًا من الفيلم بحسب تصريحاته لملحق سينما بصحيفة الحياة في العدد رقم 13278.
دول بردو أبطال زي أبطال الحرب تمام
Uploaded by Bimaristan | بيمارستان on 2017-07-24.
ما بين الأرض وإسكندرية ليه، ماذا حدث؟!
وبالنظر إلى هذه الأفلام الخمسة نجد أنها مثلت -بشكل تقريبي- سمات فن شاهين، فبتقديمه لفيلم الأرض عام 1969 أنهى مرحلة مهمة من مراحل عمره الفني، ليبدأ بعدها بعام مرحلة جديدة باخراجه وكتابته لسيناريو فيلم الاختيار عام 1970، ومع الاختيار تبدأ سمات شاهين في الظهور وفرض نفسها بقوة، لتصبح منذ هذه اللحظة أفلامه معبرة عن رؤيته الذاتية للفيلم الذي يخرجه، دون التقيد بحسابات جماهيرية أو مالية، إذ كان الرجل قد وجد طريقه للإنتاج والتسويق الخارجي، في حواره المنشور في مجلة الفنون ربيع عام 1971 يقول شاهين “أستطيع أن أقول هذه أول مرة أكتب سيناريو ينبع كاملًا مني، كنت دائمًا أتدخل في السيناريو وأوجهه، لكن هذا السيناريو مني أنا… لقد ساعدتني بالصدفة ظروف مالية في أن أتفرغ لكتابة السيناريو قبل التصوير…”
الناس عايزة الأرض
“الأرض” إذًا هو أخر أعمال شاهين الذي التزم خلاله بالسيناريو بشكل كبير، ولم يخرج عنه إلا في أضيق الحدود، استطاع من خلاله أن يجسد القضية الوطنية في صورة الأرض التي يجب التمسك بها في مواجهة الأطماع، في ظل ظرف سياسي دقيق، يقول -رئيس قسم النقد السينمائي بأكاديمية الفنون- الدكتور وليد سيف: “يأتى فيلم الأرض كأحد أهم وأقوى الأفلام العربية تاثيرًا. وهو على المستوى الفنى يعد من أهم ما أنتجته السينما المصرية عبر تاريخها كله”، ويقول الكاتب أحمد عبد المنعم “أهم ما في الأرض أنه استطاع التعبير عن القضية بصورة رمزية لم تسقط في فخ المباشرة، ولم تنجرف ناحية الخطابة، هو يصور القرية المصرية، ويستطيع التعبير عنها دون أن يخرج عن خط الحكي الرئيسي”
محمد ابو سويلم
مشهد النهايه
الاختيار .. مفيش أبشع من إن الواحد يواجه نفسه
وإذا كان “الأرض” يمجد كفاح الفلاحين، ويحرض على التماسك بعد الهزيمة، فإن “الاختيار” يوجه النقد إلى الذات، يتحدث شاهين عن بطله سيد مراد المثقف الانتهازي الذي فضل النجاح الاجتماعي على الحرية فيقول “أرفض في سيد رفضه لمواجهة نفسه بالحقيقة، قبوله لبعض التغيرات في المجتمع دون أن يحاربها”، يوجه الفيلم سهامه ناحية المثقفين، يحملهم جزءًا من مسئولية الهزيمة، يعنفهم لأنهم حاولوا أن يميتوا في أنفسهم “البحار” رمز الحرية في الفيلم بالارتماء في أحضان السلطة.
يشير الفيلم على استحياء إلى حالة الانفصال الجيلي الذي نشأت بعد النكسة، والتي تتصاعد مع تتابع أفلام شاهين في تلك المرحلة لتصل ذروتها في عودة الابن الضال، يتحدث شاهين في حواره مع الناقد السينمائي سامي السلاموني عن أزمة الأجيال فيقول “كنت أريد من وراء شخصيتي فرج ورؤوف أن أؤكد على أن الأجيال المختلفة متكاملة، وأن أشير إلى الأمل في أن يفهم فرج -وهو رمز السلطة- أكثر، فيطور من ذاته”
أحلى حاجة فيك البحار تخنقه ليه؟
Uploaded by Bimaristan | بيمارستان on 2017-07-24.
هنحارب
“العصفور” هو صرخة يوسف شاهين الأعلى في هذه السلسلة من الأفلام، رسالته بوضوح هي أن الفساد الداخلي هزمنا قبل أن تهزمنا إسرائيل، يقول الناقد أحمد رمضان “ميزة الفيلم هو أنه قدم تشريحًا لأسباب الهزيمة من غير دعائية، بدون إشارات فجة لثورة التصحيح التي قادها السادات، وهي المشاهد التي كانت تفرض على بعض الأفلام حينها”
وضوح الفكرة هنا كان رسالة يوسف شاهين التي لم يستطع كتمها، غير أن الرقابة حجبتها فمنعت عرض الفيلم، ولم يعرض إلا بعد نصر أكتوبر، ليفاجئ المصريون حين مشاهدة الفيلم أنه يحوي الصرخة الأهم، الذين كانوا يحتاجونها قبل الحرب “هنحارب”.
هنحارب
Uploaded by rasha portsaid on 2014-11-02.
عودة الابن الضال، واللقاء الحتمي
عودة الابن الضال هو اللقاء الحتمي -بتعبير الدكتور وليد سيف- بين جاهين وشاهين، صلاح جاهين المؤمن كليًا بثورة يوليو، والذي ينهار حلمه أمامه يوم 5 يونيه، يريد أن يعبر عن هزيمته، يريد أن يصرخ وينعى جيله المهزوم، وشاهين الخائف يقول في حواره مع الناقد “سمير فريد” في جريدة الجمهورية بتاريخ 14 أكتوبر 1976 “أنا خائف والخوف هو الدافع الرئيسى الذى جعلنى أصنع هذا الفيلم، أنا خائف من عودة بعض الأشياء التى كانت قد إختفت من مصر مرة أخرى إنهم يفهمون الانفتاح كما يفهمون الإشتراكية ..انفتاح لهم وحدهم واشتراكية لهم وحدهم”.
أطلق شاهين على الفيلم اسم “مآساة موسيقية”، وفي هذه المآساة يطلق النيران على الماضي بكل تعقيداته وصوره، ويعلن فشل المشروع الناصري، في تحقيق أحلام جيله هو وجاهين، ويصبح الأمل في النجاة هو وصول الجيل الجديد الذي مثله في الفيلم “هشام سليم” و”ماجدة الرومي” إلى الأسكندرية رمز الحرية والخلاص في سينما يوسف شاهين.
اسكندرية … ليه؟
اسكندرية ليه هو أخر أفلام يوسف شاهين في مرحلة السبعينيات، الفيلم الذي يشهد اكتمال مرحلة تطوره الفني، وانفصاله الكامل عن التكنيكات المباشرة.
وهو إن كان في الثلاثية السابقة يحكي عن تصوراته وقناعاته الفكرية، فهو في “اسكندرية…ليه؟” يحكي عن ذاته بشكل مباشر، وهي رحلة الحكي التي تمتد من 1978 حتى 2004 حين يخرج أخر فيلم في سلسلة من أربعة أفلام يتحدث فيها عن نفسه بعنوان “إسكندرية ..نيويورك”.
و”اسكندرية ليه” ورغم عدم ارتباطه بنكسة يونيو 67 أو بالتحولات التي صاحبتها، إلا أنه مهم كنقطة انطلاق لما بعد مرحلة السبعينيات، ومهم أيضًا في عملية فهم المرحلة التالية عليه، ومهم للإجابة على السؤال الذي حمله الفيلم، إسكندرية..ليه؟!
محمود المليجي وعاوزني أكسبها فيلم اسكندريه ليه
فيلم اسكندريه ليه : محمود المليجي وعاوزني أكسبها
المــحـــاكمة
ورغم إتفاق الجميع على أهمية يوسف شاهين كمخرج، إلا أن ما قدمه خلال فترة السبعينيات، أثار عواصفًا من النقد، فبعد عرض “اسكندرية ليه”كتب سامي السلاموني في مقاله لمجلة “الإذاعة” بتاريخ 22 سبتمبر عام 1979 “القضايا في أفلامه الأربعة الأخيرة واضحة جدًا …لكن أسلوب التعبير عنها غامض جدًا ومليء بالتخبط والتشويش”، واستطرد “أدعو للحجر عليه، ومنعه بحكم القانون من الاقتراب من مسألة السيناريو والحوار والمونتاج، إذا كان هذا ممكنًا، فلدينا مخرج عظيم ولابد أن نحميه من نفسه”.
الحديث الذي يعقب عليه الدكتور وليد سيف فيقول “أختلف مع هذا الطرح، المخرج هو المسئول عن فيلمه، وبالتالي له الحق في توظيف السيناريو بما يحقق رؤيته، السينما هي لغة صورة ودور المخرج ليس تحديد زوايا الكاميرات، وحجم الكادر، يجب أن يملك تصورًا كاملًا لفيلمه”.
“بالنسبة لموضوع عدم قدرة الجمهور -وقت عرض الأفلام- على فهم ما يقدمه شاهين، فلا أعتقد أنه قصد التعالي على الجمهور، ربما اعتقد أن ما يقدمه مفهوم، نحن الآن نشاهد أفلامه فنحسها مفهومة، لأن تطور السينما جعلنا أكثر إدراكًا، رتم السينما السريع جعل رتم أفلامه عاديًا، ومونتاجه لم يعد متوترًا كما السابق، كان شاهين سابقًا لجيله، ربما كان لديه بعض مشاكل في التأسيس للشخصيات، وبعض مشاكل في إختياراته لأبطال بعض أفلامه الذين كانوا يحاولون تقليد أداؤه الشخصي، لكنه يبقى علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية والعربية وتبقى تجربته ثرية، أثرت في أجيال.”
المصادر:
1-حوار مع الدكتور وليد سيف.
2- حوار مع الناقد أحمد عبد المنعم رمضان.
3- الأعمال الكاملة للناقد السينمائي سامي السلاموني – طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة.
4- كتاب أجيال يوسف شاهين- من إصدارات مهرجان القاهرة السينمائي.
كيف واجه يوسف شاهين نكسة 67 في 5 أفلام؟.. وهذه الق…
6 أفلام قدمها يوسف شاهين بعد نكسة 67 ولكنه تبرأ من فيلم “النيل والناس” علنا، لتصبح 5 أفلام فقط هي الأرض، والاختيار، والعصفور، وعودة الابن الضال، وأخيرًا إسكندرية ليه؟، والتي تعد بمثابة صفعات سينمائية وجهها لواقع الهزيمة المرير ووقعها المدمر.