جاري التحميل...
المدونة

“الدنيا اللي في بالي”.. فضفضة طيبة على ألسن مستعارة!

الدنيا اللي في بالي أميرة محمود يوسف

المتتالية القصصية “الدنيا اللي في بالي” والصادرة عن ديوان للنشر، من تأليف أميرة محمود يوسف، شديدة اللطف!

هكذا بكل بساطة يمكن أن تصف هذه الكتابة، دون إغراق في التحليلات النقدية، أو تشريح للأسطر والكلمات.

فأميرة التي تكتب بعد توقف طويل، حكاءة ماهرة، تكتب بسلاسة، وتلتقط تفاصيل عادية، لتصنع منها عالما، يلامس عالم قارئها.

والذي يجعل هذه الكتابة لطيفة، إلى جانب جودة الصنعة، من كاتبة جيدة، إنها تحكي عن كثيرين لا يستطيعون الحكي عن أنفسهم.

المشكلات -العادية- غير الملحمية، التي أقامت عليها “أميرة” حكايات المتوالية، تلمس الكثيرين، تجعلهم يبتهجون لأن الكاتب يشاركهم نفس الإحساس.

أبطال الكاتبة طيبون جميعًا، حتى الذين يرتكبون أخطاءً، فإنها تسارع فورًا إلى إيجاد المبرر لهم، لا بصورة مقحمة، لكن بصورة متعاطفة!

هذا التعاطف هو مفتاح قراءة هذه المتوالية، فالهدف النهائي للكاتبة كما أفصحت في مقدمتها “أن تقابل -أنت أيها القارئ- البطل نفسه، فتكون أكثر رأفة به”.

الحدث المحيط بالبطل في هذه المتوالية ليس محور الأحداث، لكن المشاعر الذي يشعر بها هو، أو ما تشعر به أنت تجاهه هو لب الأمر.

والمشاعر استقتها “الكاتبة” بالأساس من ذاتها، المشكلات التي تؤرقها، أو التي تتصور أنها تؤرق غيرها، ممن يؤثرون على مسار يومها، فتتسبب في سلوكهم غير اللطيف، أو غير المهذب أحيانا.

في القسم الذي أطلقت عليه “أميرة” اسم “ما قبل المقدمة”، تقول إنها: تشعر بغصة حين تعرف الناس بوظيفتها الحالية، لأنها تود أن تعرف نفسها باعتبارها كاتبة

المشكلة -ذاتها- التي تواجه بطلة حكايتها الأولى، التي تعمل في القطاع الطبي، ولم تصبح كاتبة أو شاعرة!

ولا أحتاج لأن أقول، أنه وعلى هذا النسق، ستجد بقية الحكايات، شعور غالب، بالحنين للطفولة، أو التشتت، أو العجز…

كلها مشاعر لا بد أن أي إنسان قد مر بها، ومن ثم لا تستبعد، أن الكاتبة لا تكتب قصة، بقدر ما تخرج الأشباح والمخاوف من رأسها، لتواجههم على الورق!

فعلى طريقة لعبة “المشابك” التي يختار أحد أبطال حكايتها أن يلعبها، ليحول كل “مشبك” إلى شخصية، يمكن أن يتغلب بها على وحدته، يمكن تصور شخصيات “أميرة محمود يوسف” وكأنهم مشابكها.

“مشابك” تستعير ألسنتها وتجري عليها ما يدور في بالها من أفكار، وما تحس به من مشاعر، فهذا “المشبك” يمثل الليالي التي لم تستطع فيها النوم بشكل جيد، وذاك لعملها كمختصة في التغذية..

أما المشبك البعيد، فيمكن أن تجعل منه شخصية سيدة ضايقتها، لكن تظهر هنا مشكلة، إنها طالما ضايقتها، فإذا هي شريرة بنسبة ما، لا بد إذًا من إيجاد مشبك جديد، يكمل القصة الناقصة، فيجعلك تتعاطف مع الشريرة، أو بالأحرى يجعل الكاتبة نفسها تتسامح معها، فربما لديها ما أزعجها، يوم أن ضايقتها، وربما هي ليست شريرة

وهكذا فالدنيا في بال أميرة يوسف، كما أتصورها، هي عالم حي يدور كله في رأسها، فيه صراعات -عادية غير ملحمية-، وخناقات، وأفراح وأشجان، وكل ما فعلته في هذا الكتاب، هي أن أخرجت بعضًا من هذا الزحام الدائر في رأسها، ووضعته على الورق، ربما لتخف الزحمة، عبر فضفضة قصصية، تجعلها أشجع في التعبير عما تريد قوله، فالذي يتحدث ليس أميرة، ولكنها سلوى أو هاجر أو أي مشبك آخر!

حظ “أميرة” الجيد هنا، أنها مصرية جدًا، الخير جواها ونهر النيل رواها، فأشباحها وأفكارها ومشابكها، تعبر -كما أسلفنا القول- عن كثيرين، فتخرج هذه الأفكار بكل الصدق كونها تحمل جزءًا كبيرًا من الذاتية، فتمر إلى القلوب مستفيدة من الصدق أولا، ومن ملامسة الحديث لأوتار قارئيه ثانيا..

لكن.. هل يعني هذا أن كل شيء في المتتالية كان جميلا، ورائعا، وأن المقادير كانت مضبوطة دون ذرة ملح زيادة أو نقصان؟!

الحقيقة لا، فبعض المشابك/ الشخصيات التي استخدمتها الكاتبة، جاءت لتكمل قصة مشبك/ شخصية أخرى، وهذه الشخصيات الثانوية، لم يكن التعبير عن مشاعرها بذات القوة التي عبرت بها الشخصيات الرئيسية عن مشاعرها، لكن وجودها في النهاية كان ضروريًا لإكمال الصورة

وإلى جانب النقطة السابقة، فمسألة كتابة مقدمتين بدت لي غير موفقة إلى حد كبير، خصوصا تلك المقدمة الثانية التي تمهد للكتاب

حين قرأت في هذه المقدمة أوصافا مثل “قصص عادية جدًا”، “قصص تحدث كل يوم”، “خمس عشرة قصة تختلف في كل شيء، وتتفق في هدف وحيد”، لم أستطع استساغة فكرة أن هذه مقدمة، هذا تقييم نقدي، وتوصيف للمتوالية، تجريه الكاتبة بنفسها، في الوقت الذي من المفترض أن يجريه عنها الصحفيون والنقاد المهتمون، أو حتى كاتب شهير أو نصف شهير يقدم لقصصها، في حين تنقطع علاقتها هي بنصها بعد كتابته، وتتركه للتأويلات المتعددة، حتى تلك التي لم تكن تقصدها حين كتبت النص!

ويبدو أن الكتاب ولفرط طيبته أراد أن يسهل مهمة النقاد، ويغششهم ماذا يكتبون عنه، في صفحاته الأولى، أو أنها “متوالية قصصية” معتدة بذاتها، تحب أن تحافظ على سلامها النفسي، فتتولى الكتابة عن نفسها بنفسها، وتشجيع ذاتها بذاتها، دون أن ننتظر أحدًا، حيث الاهتمام مبيتطلبش!

أخيرًا.. “الدنيا اللي في بالي” عمل خفيف على القلب، يستحق القراءة، فيه لمحات فكرية جيدة، والتقاط ممتاز لتفاصيل تمر مرورًا عابرًا، وهو من النوع الذي يقرأ في جلسة واحدة، تخرج منها مستمتعًا، ولا يستحب فيه أن تقرأ عنه مقالا طويلا يُغرق صاحبه في التحليل، كالمقال الذي قرأته للتو!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.