لم يكن مونديال قطر 2022، اعتياديًا، ليس لأنه شهد عددًا معينًا من الأهداف، ولا لأن فرقًا لم تكن مرشحة للمضي قدمًا، مضت إلى أبعد حد، ولا لأن لغة الأرقام تقول شيئًا أو تعيده، بل لأنه حمل الرقصة الأخيرة، للكثير من “الحريفة” القدامى، أسدل الستار على أبطال جيل، وأذن لغيرهم بالظهور، في تسلسل درامي نادر، وفي مشهد ختامي، لم يتصوره البعض ممكن الحدوث، إلا في عالم الأدب، وعلى شاشات السينما..
في هذا التقرير، يودع عددٌ من الكتاب الشباب “حريف” جيلهم الأبرز، يكتبون عن سنوات عاشوها معه، عن رحلته، كأنه بطل أسطوري قديم، عن وصوله في النهاية، عن الأحلام ممكنة التحقق رغم كل شيء، وعن الباب الذي قد ينفتح تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال، وطموح الملائكة، كما بشر “نجيب محفوظ”..
ميسي في «هاملت»
لو كان هذا موضوعًا أدبيًّا -وإن لم يكن فهو يبدو كذلك-، لحظيت قصة ميسي بثُقلٍ أكبر وحبكة أجود من قصة دييجو. إن سيناريو خطوات ميسي الأخيرة فوق الملاعب؛ خروجه من برشلونة، تخييب التوقعات في باريس، الفضيحة أمام السعودية، وأخيرًا أبواب المجد في انتظاره، يبدو خارجًا من العقول العبقرية ذاتها التي كتبت «ذا واير» أو«الحرب والسلم» أو «هاملت».
الأرجنتيني الذي قُدِّس في برشلونة، الذي أُطلق عليه تهكمًا لقب «الكاتالوني» في الأرجنتين، الذي أذهل العالم مع ناديه وأحبطه بصورة منهجية مع منتخبه، الذي يجسد الفشل الأرجنتيني لمن يُجبَر على الرحيل إلى أوروبا لتبتسم له الحياة، الذي بدا كمن فوَّت قطاره الأخير وهو يبكي على عشب «الماراكانا» في 2014، قد استطاع بعد ثمانية أعوام -ما يعادل ثلاثة قرون في عُرف ساقَي لاعب كرة القدم- أن يأخذ بيدنا حتى الفصل الأخير من هذا العمل. فعلها بطريقة جديدة، بجهد ومعاناة لم يضطر قط إلى خوض غمارهما في سنوات مجده. كرة القدم ليست أدبًا، حتى لو بدت هكذا في بعض الأحيان.
لو كانت كذلك، لانتهى كل شيء هنا، في هذه اللحظة بالذات. في هذه الأيام المطيرة من ديسمبر عام 2022 التي تمكن خلالها ميسي، عكس كل التكهنات، من نيل تلك الفرصة الأخيرة. لو كانت أدبًا لظللنا نعيش إلى الأبد في هذه اللحظة السحرية التي لا نعرف فيها كيف ستُختتم أكبر قصة رياضية في العقود الأخيرة. بحلول يوم الأحد سيكون كل شيء قد انتهى. ليت هذا النهائي لا يُلعب أبدًا.
جزء من مقال خيراردو تيثيه الذي نشر على موقع ctxt الإسباني يوم 15 ديسمبر الماضي قبل نهائي المونديال
ترجمة: محمد مهدي
سنة أولى مونديال
ما الذي كان كأس العالم يعنيه بالنسبة إلي سابقًا؟، مجموعة من الحمقى الذي يركضون وراء كرة، وما الذي يعنيه الآن؟، مساحة تمنحني الأمل، في عالم بات الأمل فيه سلعة مفقودة، في عالم يحترف أن يحبطك يومًا تلو الآخر
كيف نمت تلك العلاقة إذًا؟ كفتاة تربيت على أن الكرة للرجال، ونشأت على يد أب لم يعر الكرة اهتمامًا، فلم تكن المباريات أمرًا مستساغًا داخل بيتنا في طفولتي، لكن الكرة تسللت إلي عبر عمو ممدوح، زوج قريبة أمي، وأبي الثاني، الذي كان ينشغل بالكرة للدرجة التي تجعله يلقي المسبات التي لم نكن نسمعها أبدًا منه في العادة، أو يبصق على التلفاز إن خسر فريقه!
لم أكن أفهم حينها هذا الغضب الذي يجعل شخصًا مثله يتحول بسبب خسارة فريقه، ولكنه أورثني دون تدخل عادة مشاهدة مباريات المنتخب، التي كنت اشاركهم مشاهدتها في بيتهم، أحببت هذا الجو الذي افتقدته في بيتي، تتهلل أسارير طنط عبير وتبكي ويخرج عمو ممدوح لشراء الآيس كريم والحلوى لنا فرحًا بالنتيجة المرجوة. الآن لا يعطيني أحد الحلوى، الحلاوة كلها تذوقتها وأنا أشاهد المبارة بينما أطلب الشاي على المقهي
كأي قارئة جذبتني الحكايات، حكايات كرة القدم، ولاعبوها الذين يعدون وراء الكرة وكأنها خلاصهم الوحيد؟ في مباراة النهائي لم يكن لدي تاريخ طويل مع الكرة لأقف في صف فريق ما، قررت أن أستمتع فحسب، ثم قضيت ليلة تاريخية بأحداث مشوقة في كل دقيقة ونتبجة لم تحسم حتى اللحظة الأخيرة، ولأن الحكايات ليست كلها خيالًا، تقدم لك كرة القدم أملًا موازيًا، تعلمك الانتماء، ولو لمجموعة لن تعرفها إلا دقائق، ستتشارك الفرحة مع غيرك، وستتعلم أن تطلق الصرخات دون قلق
حسنًا الآن تغيرت نظرتي من 22 أحمق يجري وراء الكرة، إلى 22 شخصًا يعدون خلف حلمهم، ألا أفعل ذلك أنا كل يوم؟
آية إيهاب
مشاعر مضطربة حول انقضاء زمن ميسي
بالنسبة لجيل والدي، الذي شهد مارادونا يلعب، انتهت الأسطورة، نحن في زمن العاديون، ظهر رونالدينهو من البرازيل، وقبله رونالدو الظاهرة، وآخرون من فرق أوروبية، ديل بييرو الإيطالي، فيجو من البرتغال، لكن المقارنات لم تكن في صالحهم، من هؤلاء الذين يرقون لمستوى دييجو؟ عفوًا يا أطفال وشباب هذا الجيل الذين لم يدركوا ذروة مسيح الكرة العالمية في فترة الثمانينيات من القرن الماضي! زمنكم رديء.. ليس به مارادونا آخر، لقد انتهى عصر الأساطير إلى الأبد بتوقف مارادونا، نحن الآن في زمن الأنصاف، أو العاديين.. آمنا بما قاله الآباء، حتى ظهر ميسي، خطف الأضواء، شاب قصير القامة أبله الملامح لكنه خفيف وسريع أيضًا، موهوب بالفطرة، حاول كريستيانو مقاربته، نجح أحيانًا، وأخفق أحيانًا، لكن ما يميز ميسي أنه منحنا إلى حد كبير أسطورتنا، أسطورة جيلنا، نقف في وجه أبائنا ونقول لهم، لديكم مارادونا المدمن؟ لدينا ميسي، ميسي الذي يقدسه الناس تارة ويلعنونه تارة أخرى، تمامًا مثل أي رمز، أصبح لدينا مارادونا خاصتنا.
——-
كان مونديال 1998 أول مونديال أشاهده، اليوم وقد خطوت سنواتي الأولى في الثلاثين، فهمت الكرة أكثر، وأصبحت أشجع الأرجنتين، مفرخة الأساطير، وولادة الظواهر الخلابة.
برفع ميسي كأس مونديال 2022، يعلن انقضاء زمنه، أفضل مشهد ختامي لملحمة أساطير الألفية الثالثة يعلن انتهاء زمنه بمفرداته جميعًا، ميسي الأيام الخوالي، دروس الفيزياء، مقاهي الإنترنت، كرة القدم على الشاشات المفتوحة، دون احتكار، اللعبة التي كانت متعة يمارسها الموهوبون، صارت تعتمد على الدراسات والأرقام والإحصاءات، ربما يكون مشهد حمل ميسي لكأس العالم، هو مشهد ختام زمن الموهبة الفطرية، مشهد نهاية كرة القدم التي نعرفها، التي تستند إلى الإمتاع والعواطف المتقدة، وصيحات الفرح الممتزجة بالدموع الساخنة، هناك أشياء أخرى لا نفهمها الآن.. فوداعًا زمن ميسي.
محمد رشوان
ديجو يبتسم أخيرًا
ديجو يراقبنا من السماء، قالها ليونيل ميسي فصدقته رغم مجازية حديثه، بعدها انفجر صارخا للمرة الأولى بمسيرته في وجه لاعب هولندا: لا تنظر لي هكذا أيها الأحمق، في تلك اللحظة أدركت أن ميسي قد تغير، تحرر أخيرًا من الضغوط وسيفعلها ويحاكي الصورة الأشهر لمارادونا محمولا على الأعناق وحاملا كأس العالم بين يديه.
رغم فوز الأرجنتين بكأس العالم عام 1978 إلا أنني أعتقد أن شعبية التانجو عالميا لم تبرز إلا في مونديال المكسيك 1986، التألق اللافت لمارادونا جعل منه بطلا شعبيا، النسخة المذهلة من لاعب الكرة القادر وحده على هزيمة فريق بأكمله أذهلت الجميع، باتت الأرجنتين مرشحا دائما للفوز بالبطولة، انتهت مسيرة مارادونا نهاية دراماتيكية لكنه ورط أجيالًا من اللاعبين في طموحات شعبية تفوق قدراتهم، فشل تلو اخر وصورة ضخمة لمارادونا في المدرجات تشعرهم بالعجز وكأس عصية يحلم بها المناصرون
أخيرا يظهر حامل الشعلة، يحمل جينات ديجو، يراوغ الجميع ويحرز أهدافا أسطورية، النسخة المعدلة من مارادونا، بلا شغب أو حماقات، يحقق اللقب تلو الآخر رفقة فريقه الأسباني، يرتدي قميص التانجو ويقابل بحفاوة، يمر شهر العسل سريعًا، تنطلق صافرات الاستهجان من المدرجات، يصرخ أحدهم ليس مارادونا، ويزعق آخر: يلعب كسويدي لا أرجنتيني.
تورطت في حب ميسي منذ اللحظة الأولى، متأكد من أنه آخر اللاعبين المهاريين بلا إدعاء، بانتهاء حقبته ستطوى صفحة من عالم كرة القدم، اللعبة الأشهر تتحول بالتدريج إلى صناعة، محللو أداء، برامج كمبيوتر، إخصائيون لكل شيء.
تمنيت فوزه بكأس العالم، اللقاء الختامي، بطولة صعبة المنال، عرضته إلى هجوم قاسي من جمهور بلاده طوال السنوات السابقة، ربما من العدل أن يغادر لاعب استثنائي مثله الملعب من الباب الكبير، رغم ذلك أدرك صعوبة الأمر، 36 عاما مرت، إخفاقٌ تلو آخر للأرجنتين، الكرة في العام 1986 مختلفة عن الآن وميسي ليس مارادونا.
الهزيمة من السعودية قلصت التوقعات، سيرحل باكيا ككل مرة، تتوالي المباريات فينتفض ميسي، تظهر نسخته الأخرى التي لم نراها من قبل، الصامت تكلم، صرخ وأشاح بيديه، التحم وسقط ونهض، قاتل وكأن دماء مارادونا قد جرت في عروقه، تحول بلحظة إلى نسخة من ديجو
ملعب كرة القدم نموذج مصغر للحياة، تقدمت الأرجنتين، فبات ميسي بطلا قوميا، لو مرت الدقائق الباقية بسلام لربما ينصب تمثالا له في وسط بيونس ايريس، يتحول الحلم إلى كابوس، تتعادل فرنسا فيجتر عقله الذكريات السيئة، يسترجع سجل الهزائم، يدوي بأذنيه الهتاف الذي يكره: لا يشبه وديجو، يتمشى وكأنه في نزهة، يطرد الهواجس ويسدد ركلة الترجيح الأولى لمنتخبه، تمر إلى الشباك فيهتز الملعب باسمه، يفكر للحظة، لو لم تمر لمت واقفا، يفوز أخيرًا، يُحمل على الأعناق ويحتضن الكأس أخيرا، يحقق حلم ديجو ويظن أنه رأه في السماء يبتسم
فريد عبد العظيم
التورط في محبة كرة القدم
في نهائي كأس العالم، بكيت مرتين، مرة عندما سجل ميسي الهدف الثالث، وأخرى عندما توجت الأرجنتين بالبطولة. في حياتي كلها، كانت هذه أول مباراة أبكي من الفرح.
أبكتني الكرة من الحزن كثيرا، حتى ظننت أن تشجيعي ما هو إلا ساعة طويلة من الهزائم تتخللها لحظات متفرقة من انتصارات خاطفة . بكيت في ٢٠٠٨ عندما خسر الأهلي أمام النجم الساحلي، وبعدها في ٢٠١٠ عندما خسر أيضا أمام الترجي. وفي الليلة التي خسرت فيها مصر مباراتها الفاصلة أمام الجزائر بكيت حتى قالوا أن عيناي ستنزفان دما. صدمتني تلك المباراة، وعشت بعدها محبطا، كأن الحسرة كلها تجمعت في قدم عنتر يحي عندما سدد الكرة لتخترق قلبي أنا لا الشباك. وقتها قررت وضع مسافة بيني وبين الفرق التي أشجعها، حتى لا تضربني نوبات الانهيار تلك. حتى جاءت الليلة الأقسى، بعد سنوات، عندما استطاع ليفربول أن يعود بالريمونتادا الشهيرة على فريقي برشلونة. دخلت الأهداف الأربعة في غفلة من الزمن، وتمزق فريقي بعدما كان على بعد خطوة من البطولة، وخرج ميسي منكسرا. ليلتها وضعت رأسي تحت الوسادة، وبكيت مجددًا.
ميسي هو بطلي الخارق في المستطيل الأخضر، تفتحت عيناي على تشجيع الكرة بوعي كامل لحظة تفجره في برشلونة، وقت خفوت نجم رونالدينيو، تابعته بشغف لأكثر من عقد، في المباريات الملحمية، والمباريات اللاتي ربما لم يشاهدها غيري. شيء ما في ذاك العفريت دفعني للاستمرار في المشاهدة، حتى بعد أعتى الانكسارات. لا أعرف تحديدا ما الدافع، ربما لأن تكوينه الجسدي ذكرني بنفسي في المدرسة، وأنني كنت الأنحف والأضعف حتى لو عدوني دوما من زمرة المتفوقين. كان لديه دوما القدرة على تحويل ضعفه وقصره الواضحين إلى إمكانية فعل أي شيء بسهولة، كأنه لا يفكر فيما يفعله، بل يفعله لأنها طبيعة الحياة ومسار الأشياء، ثم تلاعبه بأعتى اللاعبين في العالم، حتى لو كانوا أقوى منه جسدا وثباتا على الأرض، كأنه ينتقم لنا، لكل ضعيف جسد لا يستطيع فعل ذلك في حياته العادية.
تلك القدرة المبهرة لديه لم تجعل كل لحظاته سعيدة للأسف. بكى ميسي كثيرا من الحزن مثلما بكيت أنا. خسر نهائيات عديدة مع منتخب بلاده، ومع برشلونة في فترته الأخيرة. تكررت الانكسارات المذلة، بعدها كنت أرجع إلى البيت وأقرر في فورة الحزن أنني لن أشاهد الكرة ما حييت. لم ألتزم بقراري أبدا، كنت أعود في الأسبوع التالي لمشاهدة المباراة بكل الحماس والنهم للانتصار. هذا هو السحري في كرة القدم، أنها لعبة احتمالات دائمة، مع كل صافرة جديدة تنسى ذاتك وتتوحد مع ألوان فريقك، مع وعد بواحد من احتمالين: نصر يؤجج فرحتك، أو هزيمة تعمق حسرتك. ثنائية من الأمل والألم في كل مرة، أو كما تقول جملة شعرية قرأتها يومًا ” أن تجد نفسك متورطا، وقد شبت النار في باطن قدميك”.
محمد عبد الرازق
مونديال 2022
(فصل لم يكتبه جاليانو)
قبيل بداية العام عُرض فيلم (يد الرب) للمخرج الإيطالى باولو سورينتينو مستعرضا على خلفية أحداثه هوس أهالى نابولى بحضور مارادونا إلى مدينتهم الجنوبية وناديهم متوسط الإمكانيات، ثم اندلعت الحرب بين الروس والأوكران، تقافزت الأسعار وانتشرت الأزمات الاقتصادية، واستشهدت الصحفية شيرين أبو عاقلة برصاص الإسرائيليين، فازت الفرنسية آنى أرنو بجائزة نوبل للآداب وتساءل العالم هل حقا تستحق؟ عاد لولا دا سيلفا لحكم البرازيل بعد سنين من الابتعاد والسجن، واندلعت المظاهرات فى طهران.
عُقدت البطولة لأول مرة فى الشتاء، ولكنها بدت أكثر سخونة من غيرها، مفعمة بالمشاعر والدموع، توقع كثيرون أن تكون كذلك، فهى البطولة الأخيرة لبطلى الخمس عشرة سنة الماضية، ومشهد النهاية لسباقهما الممتد، ميسى ورونالدو فى النزال الأخير. ثمة صراع حضارات وحروب ثقافات دارت هناك أيضا، بعض المنتخبات الأوروبية وعلى رأسها المنتخب الألمانى سعوا لاستغلال الحدث للتعبير عن أفكار ثقافتهم المخالفة لمعتقدات العالم الذى تقام فيه البطولة، وفى المقابل صممت قطر المنظمة بأموال باهظة حد الجنون على كبح جماحهم، خرج الألمان من الدور الأول وانهزمت البلد المضيفة فى مبارياتها الثلاثة واشتعلت صراعات أخرى فى الأدوار التالية.
انتفض المنتخب المغربي ووصل إلى المركز الرابع فى مفاجأة مذهلة ومبهجة، حتى أنهى الفرنسيون حلمهم بمساعدة التحكيم، احتفل اللاعبون المغاربة مع أمهاتهم فى قلب الملعب، سيدات بملامح مألوفة لنا وابتسامات بريئة طيبة يرقصن ويضحكن فى أكبر حدث كروى عالمى، انهزم رونالدو وانصرف غارقا فى دموعه، خاض نيمار ورفاقه البرازيليون المنافسة وكأنها مسابقة رمضانية، خطفوا الآهات ثم أُقصوا خارج البطولة فى غفلة منهم، ورفرفت أعلام فلسطين فى أيادى جمهور تونس ولاعبى المغرب.
فى النهاية وصلت الأرجنتين وفرنسا إلى الجولة الأخيرة، ميسى فى مواجهة مبابي، ميسى الذى فشل فى شبابه أن يقدم شيئا ذا قيمة لمنتخب بلاده وطاردته انتقادات جماهيره، يعود فى أول بطولة بعد رحيل مارادونا نحو السماء، يعود بوجه جديد، حيث بدا متحمسا ومنفعلا كما لم يكن من قبل، وكأن شيئا من روح مارادونا قد مسه، يصرخ فى المنافسين والحكام ويندفع حتى تخور قواه، وفى المقابل مبابى، بسرعته وشبابه وموهبته، يسعى إلى كأسه الثانية على التوالى، وخلفه كتيبة من اللاعبين أشداء البنية.
كان ميسى الوجه الأبرز فى مباريات الأرجنتين السابقة، ولكن فى المباراة النهائية تقدم دى ماريا وأمسك بدفة القيادة، دى ماريا رجل المباريات النهائية دائما، بجسده الضئيل وموهبته الفاتنة، رجل الظل خلف البطل، راوغ وسدد كشاعر رومانسى، أحرز هدفا وصنع الآخر، وبكى كثيرا، بكى فرحا بعد إحرازه الهدف ثم بكى حزنا عندما فاجأ مبابى الجميع وأحرز هدفين متتاليين فى الدقائق الأخيرة، مباراة مجنونة ودرامية، الكل متوتر ويقضم أظافره، تأرجحت الكرة طويلا وتبعتها القلوب ثم اختارت الأحق، اختارت الأرجنتين، أصطاد الحارس مارتينيز الكأس بقفازه الذهبى، وأهداه إلى بلاده بعد اشتياق امتد إلى ستة وثلاثين عاما، خسرت فيهم الأرجنتين نهائيين وخرج لاعبون استحقوا التتويج دون ألقاب، على رأسهم باتيستوتا الذى انهمر فى البكاء فى ستوديو تحليل المباراة كطفل وجد ضالته بعد سنين، ربما تخيل أنه هو نفسه على منصة التتويج، يحمل الكأس وبجواره أورتيجا وفيرون، لقد ضاع منه الحلم سابقا والآن يراه يتحقق بأقدام جيل جديد، حمل ميسى الكأس فى لحظة بدا للكثيرين أنها لن تأتى أبدا، وقف بالفانلة المخططة طوليا بالأبيض والسماوى ومن فوقها عباءة قطرية ورفع الكأس عاليا مع رفاقه، جلس دى ماريا على أرضية الملعب وتحدث هاتفيا إلى والده، أشار إلى الميدالية الذهبية وقال “إنها هنا يا أبى، إنها حقيقية، لقد أدارت لى ظهرها كثيرا ولكنى استمررت فى المحاولة ولم أستسلم، كما علمتمونى دائما، أحبكم كثيرا.”
آه لو تعرف ما فاتك يا دييجو…
أحمد عبد المنعم رمضان
ما أخبرنا به نيتشه عن ميسي
ميسي لا ينقصه شيء من العظمة، لكن كان ينقصه لحظة التحقق السينمائي، في السينما الشخصية هي قوس يبدأ من نقطة بعينها، الشخصية فيها مجرد إمكانية، احتمال لم يولد بعد ولم يبشر بجماله أو شره، وحكاية الفيلم هي الحبكة أو المأزق الذي يختبر الشخصية و يُجبرها على أن تنهل من كل مُمكناتها وتغترف حضورًا للعالم، يكتمل قوس الشخصية عندما تصل لأقصى نُقطة تحقق مُمكنة، عندما يصل البطل للحظة التي ولد من أجلها بالأساس، التي يوقن عندها أن كل ما سبقها كان تمهيد وإعداد قدري لها، في تلك اللحظة يكتمل القوس، وتتحقق الشخصية وتلبي قدرها كاملًا، وتوقن أنها قد عاشت بالفعل، أجمل نسخ العيش المتاحة
في مشاهدة تلك الشخصية وتتبع ذلك القوس منذ الميلاد حتى الاكتمال يكمن السحر كاملًا، السحر الذي يجعل الملايين يتعلقون بشخصية سينمائية أو روائية متخيلة أو لاعب أجنبي لا يعرفنا، أو قصة نجاح بدأت من احتمال بعيد لا يؤيده سند من واقع، وتحققت، أنها تمنحنا الغواية، أو لعنة الامل، أن ربما الآمال تتحقق مرة في الألف، والعالم قد يكون سمحًا أحيانًا ليسمح لشخصية حقيقية بلحظة تحقق كاملة، علامة نهائية، وصول القوس لمُنتهاه، دون بتر قدري أو تراجيدي.
غواية أن نكمل السعي أو نتفحص الامكانية بداخلنا، الاحتمال الذي لم يولد منه واقعًا بعد، الممكنات التي لم تجد بعد لها طريقًا للحضور من دواخلنا للعالم
غواية السعي وصولًا للحظة سينمائية نُعانق فيها نقطة القوس الاخرى، الضفة البعيدة، اللحظة التي تبرر وجودنا وتخبرنا لماذا كان كل ما سبق ضروريًا، اللحظة التي يسميها نيتشه العود الابدي، لحظة بعدها يمكنك أن توافق عن طيب خاطر بعد الموت أن تُكرر حياتك ثانية بحذافيرها في تكرار أبدي لتصل للنهاية تلك كل مرة
في لقاء سُئل محمد صلاح، ماذا لو كان كل ما مر به حلم سيستيقظ منه وهو بعد في بداية رحلته؟
يُجيب سائله مبتسمًا أنه سيعيد كل شيء من جديد، تلك لحظة حب المصير أو الأمورا فارتي كما أسماها نيتشه، حب الشخصيات التي تمنحنا بتحققها غواية الأمل، الأمل في عيش حياة ننال فيها علامة التحقق الكاملة، نعانق لحظة مثالية تبرر وجودنا، لحظة وصول مصيرنا لحالة افتتان تدفعنا لتكراره مرارًا.
حسب نيتشه، تلك اللحظات النادرة، التي تحققها شخصيات نادرة وتنال بها علامة كاملة، هي ما تمنح الملايين الغواية للقيام بالرحلة ذاتها، في قصتهم الخاصة ، للوصول بالقوس لاكتماله. حتى لو كانت الحقائق كلها تقول العكس، حتى لو كانت الحقائق في قصة ميسي بدأت بطفل ناقص النمو لا ينبيء واقعه عن أي أمل، يراهن نيتشة على الارادة دومًا في مقابل الحقائق. ينبذ فلاسفة الحسابات والأنساق المحكمة ويقف وراء البطل الديونيسي الإغريقي، الذي يتقبل مصيره ويحمل قدره على أكتافه ويغتوي بجمال لا يراه سواه
لشخص مثلي ليس مجنونُا بالرياضة، ليلة نهائي كأس العالم كانت لحظة سينمائية وفلسفية ثرية، لحظة نيتشويه بالمعنى الجمالي، لحظة ثرية بتأملات تجاوز بساطة الرياضة ذاتها
حسام سيد