رغم كل المعوقات التي تعوق عملية النشر، رغم عدم الجدوى المادية من فعل الكتابة في أغلب الأحيان، ورغم كل ما يعانيه الكتاب من مشاكل، لا يزال معرض القاهرة الدولي للكتاب يستقبل في كل عام كتابًا جددًا، قرروا عند لحظة ما، أن الكتابة هي ما يريدون، بغض النظر عن أية اعتبارات، ولعل أهمية هذا الخيار، تكمن في رومانسيته الشديدة، وبعده المطلق عن الحسابات الواقعية، لصالح الحب المنزه عن الأغراض، في اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، ومع كل الجدل المثار حول انتقاله من مكانه القديم في مدينة نصر، إلى مكانه الجديد في التجمع الخامس، مع كل الصخب المصاحب لاعتذار الغالبية العظمى من تجار سور الأزبكية عن المشاركة في فعاليات اليوبيل الذهبي، “أخبار الأدب” -كعادتها- قررت أن تحتفي بالكتابة الجديدة، بالأمل في أدب مختلف، قررت أن تنحاز للأدباء الجدد، ضد الصخب الذي قد يشوش على تجربتهم الإبداعية الأولى.
في هذا التقرير شهادات لسبعة من زائري معرض القاهرة الدولي للكتاب لأول مرة كأدباء، سألناهم عن تجربتهم مع الكتابة والنشر، عن قصة كتابهم الأول، وعن أسباب تمسكهم بالكتابة رغم كل شيء.
أبو العزم: قرار النشر يجب أن يتجاوز الكاتب نفسه
البداية مع القاص أحمد أبو العزم مؤلف المجموعة القصصية “النظر من ثقب الباب” الصادرة عن تبارك للنشر والتوزيع والذي يقول عن تجربته: “أكتب حتى أجعل من المعاناة أمرًا مقبولًا، الكتابة بشكل عام مرتبطة عندي بالمعاناة، النظر إلى الأمور بعينٍ مختلفة -وهو أهم سمات الكاتب- وإن كان يبدو سهلًا، فهو معاناة شديدة، أن تكتب يعني أنك ستنظر للأشياء من ثقب آخر، لذا جعلتُ عنوان مجموعتي الأولى هو “النظر من ثقب الباب”، ميزة الكتابة هي أنها تجعلك تتخلص من معانتك على الورق!”
وعن تجربة نشره يقول أبو العزم: “لم أعتقد يومًا أن ما أكتبه يجب أن ينشر، قرار النشر يجب أن يتجاوز الكاتب نفسه، هذا رأيي، النشر بشكلٍ عام مسئولية كبرى، القرار يأتي من المحيطين بالكاتبِ، شرط أن يكون رأيهم خالٍ من التملق، لي أصدقاء كثر في الوسط الثقافي، معظمهم من كتاب القصة، وما أخذت القرار إلا بعد ضغوطهم، أيضًا الفوز بعدة مسابقات متتالية في القصة، قتل الكثير من الأسئلة بداخلي، طبعًا المسابقات ليست مقياسًا، لكنها إثبات للجهد وأن لم تكتبه لونٌ مميز، الموقف الأهم في أيامي القليلة قبل اتخاذي القرار، كان بطله أشرف العشماوي، كنا في حفل توزيع جوائز مسابقة “كوتس فاكتوري”، ووسط أكثر من أربعمائة قصة، أثنى على قصتي وسأل عن كاتبها، كان كلامه فارقًا معي، لأنه لا يعرفني، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أقابله فيها، إلى جانب أشرف العشماوي، هذه فرصة جيدة لأشكر باقي اللجنة، أحمد مراد وعمرو حسين وحسن كمال، رأيهم فيما أكتب كان مهمًا معي، لأنه رغم خلافنا الدائم في كل مرة نلتقي فيها، إلا أن ذلك لم يؤثر على آرائهم فيما أكتب، أشكرهم بصدق، حتى مع اختلافنا الكبير”
ويضيف أبو العزم: “حين بدأت التفكير في النشر، اتصل بي صديقي إسلام أحمد مدير دار تبارك للنشر -وكان قد اطلع على المجموعة بحكم الصداقة بيننا ولكونه يكتب القصة القصيرة أيضًا- وطلب مني المجموعة لنشرها، وطلبت فرصة للرد، ثم وافقتُ، لا أؤمن بالصدف لكن يمكن أن نعتبر الأمر صدفة جيدة”
علام: أكتب لأن لدي ما أريد قوله وأزمة القصة فيمن يعتبرونها مرحلة إعداد لكتابة رواية
وبالحديث عن القصة القصيرة، والصدفة الجيدة التي قابلت القاص أحمد أبو العزم حين أراد نشر مجموعته، فإن الأمر لم يكن كذلك مع القاص حسين علام، الذي يقدم نفسه للوسط الثقافي للمرة الأولى، بعد محاولات عدة للنشر، انتهت بتحمس دار “بردية”، لنشر مجموعته القصصية الأولى “عسلية” التي اعتبرها الروائي أدهم العبودي “رهان” على القصة القصيرة في معرض الكتاب، في ظل ما يواجه القصة من كساد نسبي يجعل دور النشر تحجم عن نشرها لصالح الرواية التي تحظى برواج أكبر، بداية يفسر علام هذه الأزمة فيقول: “أعتقد أن المشكلة هي مشكلة الكتاب أنفسهم ثمَّ يأتي مزاج القارئ لاحقاً، العديد من الكتاب يبدأون سلم احتراف الأدب بكتابة مجموعات قصصية يعرفون بها أنفسهم للمجتمع الأدبي ثمَّ يتحولون بعد ذلك ناحية الرواية، وكأن القصة القصيرة مجرد مرحلة إعدادية للكتابة الروائية، هذه النظرة الضيقة للقصة القصيرة موَّهت خصائصها وجعلتها تختلط كثيرًا بالخواطر واللوحات القلمية، المشكلة التي سبق وأشار إليها الأديب الكبير يحيى حقي في كتابه فجر القصة القصيرة، في رأيي لن تسترجع القصة القصيرة مكانتها إلا إذا تفرغ لها الكتاب وتوافرت لها أركان العمل القصصي، حينها ربما لن يواجه كتاب القصة الصعوبات الحالية في نشر مجموعاتهم القصصية”، وعلى ذكر صعوبات النشر وأزمة القصة القصيرة، سألت القاص الشاب عن الأسباب الذي تجعله يتحمل هذه المصاعب في سبيل الكتابة فقال: “لدى ما أريد قوله، والكتابة هي وسيلتي لهذا القول، أعمل قاضيًا، حيث مئات المذكرات والأحكام وما فيها من وصف للوقائع وتحليل لأفعال الجناة وأقوال الشهود والمجني عليهم والخصوم، وحيث الاحتكاك المباشر مع أنماط شخصيات مختلفة؛ كل هذا من شأنه إمدادك بلوحات إنسانية وقماشة غنية للنسج الأدبي، كيف يمكن أن تترك كل هذا دون أن تكتب عنه مهما كانت المصاعب؟، إلى جانب يوسف إدريس وأنطوان تشيخوف، فأنا مدين للقضاء بتعزيز حب الكتابة لدي، ولرئيسي السابق وصديقي المستشار محمد أبو النصر لتشجيعه”
وعن مجموعته القصصية الأولى يقول القاص الشاب: ” كغالبية المجموعات القصصية الأولى فإن الرابط بين القصص داخل المجموعة الواحدة قد يكون ضعيفًا أو متلاشيًا، ذلك أنَّ تلك المجموعات ما هي إلا تجارب ومكنونات كتابها ممزوجة بخيالاتهم التي تظهر للنور للمرة الأولى، وجود كثير من المرشدين الأدبيين، والكتاب المحترفين إلى جوارك يقلل من هذا الأمر، لكنه بالتأكيد لا ينفيه تمامًا، وإذا كنت قد تحدثت عن تأثري بيوسف إدريس، وأنطوان تشيخوف، فأنا أحب أن أشير أيضًا إلى إرشادات أستاذي المستشار أحمد حمدان صاحب مجموعة البعث الفائزة بجائزة ساويرس للقصة، ومجموعة الهجرة لاحقًا، أنا مدين له بالكثير فيما يخص نهج الكتابة وتقنياتها”
عشري: الكتابة هي بعدي عن الجنون
وإذا كان أحمد أبو العزم قد نشر بسهولة، وحسين علام قد واجه مصاعب في النشر قبل أن تتحمس بردية لمجموعته، فإن القاص عشري يدخل معرض الكتاب بتجربة مختلفة كليًا، فهو يدخله هذا العام للمرة الأولى، ولكن ليس بمجموعة قصصية واحدة، إنما باثنتين، الأولى صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة تحت عنوان “شيء ما يحدث في هذه المدينة”، والثانية صادرة عن دار “كتوبيا” بعنوان “هلاوس من الطابق الثالث” عن هذه المفارقة يقول عشري: “أنا خريج كلية الهندسة في الأصل، غير أن نداهة الكتابة قد ندهتني، بعد فترة من انقطاعي عن الهندسة، اتخذت قرارا بإعداد مجموعتي القصصية الأولى “شيء ما يحدث في هذه المدينة”، لحسن حظي فازت بالمركز الثالث في مسابقة الهيئة العامة لقصور الثقافة، مع وعد بالنشر في سلسلة فائزون، لم أكن أعرف متى تصدر مجموعتي الأولى، نشرت بعد عام ونصف من وعد الدكتور أحمد عواض بنشرها، في هذه الفترة كنت قد تعاقدت مع دار “كتوبيا” لنشر مجموعتي الثانية “هلاوس من الطباق الثالث” وهذا ما جعل لي مجموعتان قصصيتان مختلفتان في عام واحد، رغم هذا، المجموعتان طابعهما مختلف، وأترك تقدير الاختلافات للقارئ، هو الأجدر بذلك، رهاني دائمًا على عين القارئ وذائقته، أرى كتابتي تستحق أن تتواجد أمام قارئ يحب الكتابة بوجه شديد الخصوصية، فالكتابة بالنسبة إلي هي بعدي عن الجنون والدراما الحياتية”
ياسمين سعد: مكاوي سعيد هو من شجعني على كتابة الرواية
وعلى تنوع طرق النشر وتفاوت درجات الصعوبة من كاتب إلى أخر، تبقى تجربة ياسمين سعد مميزة للغاية هذا المعرض، إذ جاءت روايتها الأولى “تذكرة على متن تايتانك” والصادرة عن دار تويا كنتيجة لبحث صحفي أجرته عن المصري الوحيد الذي كان على متن السفينة الشهيرة، وعن العرب الذين كانوا يستقلونها، تقول ياسمين سعد: “حين قرأ مكاوي سعيد الجزء الأول من تقريري عن المصري الوحيد على متن السفينة تايتانك وما تضمنه من إشارات عن حكايات لعرب على متن السفينة، نصحني بأن أبني على ما أملك من معلومات رواية، وألا أنشر الأجزاء التالية من التقرير إلا بعد نشرها، علمني مكاوي سعيد الكتابة الروائية، وأنهيت الرواية في حياته، لكن مع وفاته -رحمه الله- لم أدر ماذا أفعل بالرواية، فقد كان هو مساندي في العالم الأدبي، نشرت الجزء الثاني من تقريري في صحيفة المصري اليوم، ولم أنتظر حتى نشر الرواية كما كان مخططًا، وأحدث التقرير دويًا هائلًا، وترجم ونشر باللغات ترجم ونشر باللغات الإنجليزية والفرنسية، والرومانية واليونانية والإيطالية”
وتستطرد سعد: “كنت قد أشرت في تقريري الصحفي إلى كتابتي لرواية عن نفس الموضوع، فاتصل بي الصديق أحمد رمضان رئيس قسم التحقيقات بجريدة الدستور، وعرفني بالصديق إيهاب مصطفى الذي قدمني بدوره للناشر شريف الليثي مدير دار تويا، وها هي الرواية تصدر أخيرًا في اليوبيل الذهبي للمعرض، في صدفة سعدت بها كثيرًا، عوضتني عن تأخر نشر روايتي” وعن دوافعها للكتابة قالت ياسمين سعد: “أقتبس هنا جملة أحمد زكي في فيلم اضحك الصورة تطلع حلوة الحب ملناش يد فيه”
محمد إبراهيم قنديل: جائزة أخبار الأدب فتحت لي أبواب النشر
رواية ياسمين سعد سبقتها ضجة كبيرة أحدثها تقريرها الصحفي المميز، أما رواية محمد إبراهيم قنديل “ظل التفاحة” والصادرة عن “نهضة مصر” فسبقها فوز بمسابقة أخبار الأدب للرواية، الفوز الذي مهد طريقها للنشر في تقدير قنديل، الذي يقول: “بعد انتهائي من كتابة روايتي الأولى بحثتُ عن وسيلةٍ لنشرِها لكنَّني فوجئتُ بردِّ فعلٍ غيرِ مُرَحِّب من صديقَيْن من أصحاب دُورِ النشر، الأولُ رفضَها دون قراءتِها والثاني اعتبرَها تجربةً غيرَ مكتملة لا تصلحُ للنشر لصغرِها وتكنيك كتابتها وطالَبَ بتغييرها لتتناسبَ مع السوق، ولكنني كنتُ مؤمنًا بما كتبتُه فقدمتُ الروايةَ إلى جائزة أخبار الأدب 2018 ألتمسُ تقييمًا نقديًا موثوقًا أستفيدُ منهُ في أولى تجاربي الإبداعية، وحين فازت الرواية بالمركز الأول اكتسبتُ ثقةً كبيرةً في صحةِ المسار الذي اخترتُه لنفسي”
ويستطرد قنديل: “بعد فوزِ الروايةِ بالجائزة عرضتُها للنشر مرةً أخرى وتواصلتُ مع دار نهضة مصر الذين رحبوا بالرواية بعد قرائتِها وتم إصدارُها في ديسمبر 2018 لتلحقَ بركبِ اليوبيل الذهبي لمعرض الكتاب” ويضيف الروائي الشاب: “الأزمة في تقديري ليست في النشر، إنما في سؤال ملح، هو لماذا أكتب؟ وتبقى الإجابةُ دائمًا ملتبسة، فها أنا بعد إصدارِ الرواية أجدُ صعوبةً كبيرةً في معالجةِ النَّصِّ الروائيّ التالي وأميلُ إلى عالَمٍ قصصيٍّ تتشكلُ ملامحُه مع الوقت لتخرُجَ المجموعةُ القصصيةُ التي لم أعدّ لها من البداية قبل الرواية، ولقناعتي أنَّهُ غالبًا ما يكونُ الحافزُ الإبداعيُّ حاصلًا لاهتزازِ الحالة النفسية (الذات) والخبرة الحياتية (العالَم) للمبدع وما يحدث بينهما من تفاعلٍ في وقتٍ ما فإنني أترُكُ الأمورَ لهذا الحدْسِ الإبداعيّ ليأخذَ فرصتَهُ كاملةً حتى يخرُجَ العملُ في النهاية ذا رُوحٍ مقتَبَسةٍ من رُوحي أثناءَ كتابتِه.”
خلود المعصراوي: أكتب لأجد أثرًا لقدمي
بعيدا عن القصة والرواية تدخل خلود المعصراوي معرض القاهرة الدولي للكتاب من بوابة الشعر، بديوانها “ليه ما اتخلقتش طير” الصادر عن دار “تشكيل” تقول المعصراوي عن تجربتها: ” بدأتُ الكتابة مصادفة في المدرسة، أثارني اللعب بالكلمات، فأحببت اللعبة، في العاشرة من عمري أحب زملائي صوتي وأنا ألقي الشعر، كانوا يقولون صوتك يحيي الكلمات، الآن أعتقد أن الكلمات هي ما يحييني، رغم هذا التشجيع المبكر، لم أفكر يومًا في النشر، لم أكن أدون ما أكتبه في دفتر خاص، كنت أعتمد على ذاكرتي، ما أضاع بعض قصائدي القديمة إلى الأبد، أحب أن أري قصائدي دوما على حالتها الكتابية الأولى ولا أحب التنميق كثيرا، وأتذكر كم كان فرحي عندما اشتريت ديوان أحلام الفارس القديم لصلاح عبد الصبور ووجدت القصائد قد نشرت بخط يده وبها بعض الشطب والتعديل”
وعن أسباب تخليها عن هذه الحالة من الرغبة في عدم التدوين والنشر تقول: “طال الطريق، والتفتُّ فلم أجد أثرا لقدمي خلفي، وخفت أن تضيع القصائد، ففكرت فكرت في توثيق التجربة ورؤية ما أكتبه في عيون أخرى قد تحفظه، وأرجو من الله أن تكون تجربة النشر مع دار مهمة كدار تشكيل، تجربة تضيف لي وأطمع أن أضيف للشعر يوما ما”
محمد خفاجي: رفضت النشر الإقليمي وأتحدى الموت بالكتابة
وإذا كانت كل التجارب السابقة روائية أو شعرية صادرة عن دور نشر لها وزنها، فإن الشاعر العمودي الحاصل على عدد كبير من جوائز الشعر على مستوى الجامعات، محمد خفاجي قرر أن يسلك طريقًا أخر بالنشر على نفقته الخاصة، والتوزيع عن طريق عقد بينه وبين “أخبار اليوم” أو عن طريق مكتبة “زحمة كتاب” التي تستضيف كتابه الأول “ما تبقى من وطنيتي” في معرض القاهرة الدولي للكتاب، عن هذه التجربة يقول خفاجي: “أنا غير راض عن مستواي الإبداعي الحالي رغم تزكية الكثير من الأساتذة لشعري وأدبي، تلقيت الكثير من العروض للنشر، منها عروض للنشر الإقليمي التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة، لكني لم أرد أن أشرك أحدًا في تحمل أعباء مغامرتي، لم أكن أنوي النشر، لكن وفاة صديقي محمد وهبة المفاجئة غيرت كل شيء، أتحدى أشياء كثيرة بهذا الكتاب، أولها الموت، محمد وهبة قضى عمره في قصور الثقافة، وحين مات كان كل ما حصل عليه منشور رثاء على فيس بوك، حتى أعماله حاولنا جمعها ونشرها لتخليد ذكراه ولم نستطع، أعتقد أن الموت هو سبب تعجلي النشر، قررت النشر سريعًا ودون الاعتماد على أحد لأن الكتابة تمنحنا الحياة.”