يعتقد كثير من النقاد إن المصريين القدماء هم أول ممارس لفن القصص المصورة (الكوميكس)، فعلى جدران المعابد المصرية القديمة، دون المصريون كتابات مصحوبة بالرسومات، تروي أحداث حياتهم اليومية، أساطيرهم، واعتقاداتهم الدينية، ما يعد أول تطبيق عملي لهذا الفن في التاريخ، ورغم السبق المصري، إلا أنه وبنظرة لأحوال الكوميكس في العالم، نرى ازدهارًا كبيرًا لهذا الفن في اليابان وأوروبا وأميركا على اختلاف المدارس وطريقة التنفيذ في كل بلد، في مقابل وضع صعب لفناني الكوميكس في البلد المؤسس، فالفن الذي يبيع ملايين النسخ في اليابان، ويتحول إلى أفلام عالية التكلفة والإيرادات في أميركا، ويلقى اهتمامًا خاصًا في أوروبا، لا يكاد سوق الكتب المصري يعرفه، ولا تغامر بنشره الغالبية العظمى من دور النشر، مؤخرًا قررت بعض الدور التحرر من المخاوف المرتبطة بنشر هذا الفن غير المزدهر في مصر وخوض التجربة والرهان عليها ما اعتبره البعض بعثًا جديدًا وخطوات على الطريق قد تفتح بابًا جديدا لهذا الفن في الثقافة العربية، وتطور النظرة إليه من فن طفولي موجه بالأساس للأطفال في مجلاتهم، إلى فن متكامل يخاطب جميع الفئات العمرية كما هي النظرة إليه في مختلف أنحاء العالم، “أخبار الأدب” فتحت بدورها هذا الملف، والتقت عددًا من مديري دور النشر، ورسامي ومؤلفي الكوميكس لتطرح عليهم أسئلة حول الفن وأسباب عدم حضوره بقوة في المشهد الثقافي المصري.
أزمة قراءة لا أزمة كوميكس
البداية كانت مع مؤلف ورسام الكوميكس الكبير “خالد الصفتي” مؤلف سلسلة فلاش الشهيرة، والتي أحدثت دويًا وتأثيرًا كبيرًا وقت ظهورها ولفترة طويلة، سألناه عن أسباب تراجع الكوميكس في مصر عن فترات سابقة، كانت الأجواء فيها تبدو أكثر إيجابية واستعدادًا لتقبل الروايات المرسومة، يرى الصفتي أن الأزمة أزمة قراءة لا أزمة كوميكس، إذ لا يمكن فصل فن الكوميكس عن الوضع العام لحالة القراءة في الوطن العربي، فهناك -بحسب الصفتي- تراجع حاد في معدلات القراءة، يجعل من غير الممكن الالتفات لفن جديد، أما مع معدلات القراءة المرتفعة، وتطور مستوى الثقافة، سيكون المجتمع أكثر تقديرًا للجمال، والفن، وبالتالي سيجد الكوميكس موضعًا من دون حاجة إلى بذل جهد إضافي، ويشير مؤلف سلسلة فلاش إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي السلبي في تعميق الأزمة الثقافية فيقول: “الإنترنت اختزل حاليًا في وسائل التواصل الاجتماعي، الإقبال على قراءة الصحف والمجلات بشكل عام صار أقل كثيرًا، العالم كله يمضي على هذا النحو، لكنه لا زال يحافظ على معدلات القراءة إلى جانب اتجاهه الإلكتروني، أما هنا فالمسألة تتجه نحو الأسوأ، لأن مسألة الكوميكس مرتبطة بالذوق العام، كلما كان الذوق العام راقيًا كلما وجد هذا الفن مساحة أكبر، وعليه فإن الإصلاح يبدأ من التعليم، المسألة تراتبية، إذا أصلحنا التعليم، فسينصلح المشهد الثقافي كله، وبالتالي ينصلح حال الكوميكس”
أزمة اقتصادية
ورغم وجاهة رأي خالد الصفتي، والتسليم بتأثر فن الكوميكس بالمشهد الثقافي العام، إلا أن هذا لا ينفي في الوقت ذاته وجود أزمات خاصة بالفن، تعمق من أزمته العامة وتجعلها أكثر وضوحًا، يقول المدير السابق لدار “نول” المهتمة بنشر الكوميكس مصطفى كامل: “مشكلة فن الكوميكس هو أن هناك أطرافًا كثيرة يجب أن تشترك كي يخرج المنتج في صورة جيدة، وهو ما يمثل أعباءً اقتصادية إضافية، تحتاج إلى مؤلف، وإلى رسام، وإلى مصمم جرافيكي، إضافة إلى مراجعين وفريق تحرير يساهم في تحرير الرواية المصورة حال كان الرسام ضعيفًا على المستوى الروائي أو لديه مشاكل في كتابة السيناريو، أيضًا تكلفة الطباعة خاصة إذا كانت الرسومات ملونة مرتفعة للغاية، هذه التكاليف تجعل دور النشر تحجم عن نشر الكوميكس، ولكن ورغم كل الصعوبات، فأنا متفائل جدًا بمستقبل هذا الفن في مصر، لأن النجاح سهل إذا ما وجد القراء منتجًا قيمًا وأصليًا، ولأننا نمتلك الآلاف من الفنانين الموهوبين، أذكر أنه عندما فتحنا الباب لاستقبال أعمال الكوميكس في نول تلقينا آلاف الرسائل، ما يعني أننا لا نعاني من ندرة في الفنانين”، من جانبه يتفق فنان الكوميكس ومؤلف رواية “مترو” مجدي الشافعي مع هذا الطرح فيؤكد أن الكوميكس يعاني من أزمة تسويق وتوزيع كبيرة، تجعل المؤلف غير متفرغ للإبداع الفني والروائي، “الكوميكس فن مستقل، الفنانون يطبعون ويوزعون على نفقتهم، ما يجعل الفن نخبوي جدًا، ويجعل الفنان مستهلكًا تمامًا كونه يقوم بكل الأدوار، يؤلف ويرسم، ويسوق، ويوزع، هذا المشهد اختلف إلى حد ما حاليًا، ظهر جيل جديد من المؤلفين والرسامين، وظهرت دور نشر مهتمة بنشر الفن، لكننا لا نزال في حاجة إلى الناشر الجريء الذي يؤمن بالفن وتكون لديه شجاعة التجريب، وأذكر هنا تجربة المؤسسة العربية الحديثة مع سلاسل رجل المستحيل وما وراء الطبيعة وغيرها، رغم أن هذه السلاسل لم تكن ناجحة في بداياتها إلا أن ناشرها وقف خلفها بقوة وراهن عليها، وكان العدد من السلسلة يصدر ويوزع في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، أما إذا استمرت المحاولات بشكل محدود وضيق خوفًا من الخسارة فإن التقدم لن يكون كبيرًا”.
المنح الثقافية سلاح ذو حدين
إلى جانب الأزمة الاقتصادية التي تعيق تقدم الفن في مصر والوطن العربي، ورغم أن البعض قد يعتقد أن الحصول على منح ثقافية مصرية ودولية قد يكون حلًا لهذه الأزمة إلا أن الشافعي يرى المنح الثقافية سلاحًا ذا حدين، يقول: “الموجة الأولى من موجات تأليف ورسم الكوميكس في صورة كتب مستقلة بعيدًا عن مجلات الأطفال بدأت في الفترة ما بين 2008 حتى 2012، من بعدها تغيرت آليات الفن، ظهر جيل جديد من الفنانين والناشرين، وحصلت كثير من دور النشر على منح ثقافية دولية لدعم الفن الناشئ، هذا الدعم أفاد الصناعة من ناحية لأنه زاد عدد الإصدارات وورش العمل، ومنح فرصة الاحتكاك الدولي لكثير من النشاطات، غير أنه كان مضرًا من ناحية أخرى، فبعض من حصل على الدعم نشر وعينه على الجهة الداعمة، فجاءت الموضوعات تخاطب المتلقي الأجنبي قبل المصري، وأتت الإصدارات -في أغلبها- غير مرتبطة بالمجتمع، كما أن هذه المنح لم توجه للأكثر موهبة، بل وجهت للأكثر قدرة على الظهور، فاضطر أغلب الموهوبين بحق إلى النشر بشكل مستقل أو مع دور صغيرة”
ويضيف مؤلف “مترو”: “الترجمة أيضًا لم تسلم من مشاكل المنح، كثير من الأعمال المترجمة لم تحمل موضوعات تشجع القارئ على الشراء والاقتراب من فن الكوميكس، إذا افترضنا أنه ليس لديك سينما وتريد تقديم أعمال مترجمة تشجع صناعة السينما في بلدك، فستترجم العلامات البارزة في تاريخ الصناعة، في حين أنك لو ترجمت أعمالًا غير جذابة لمجرد أنها حاصلة على تشجيع ما فلن تنهض أبدًا، ولن يحدث الرواج المطلوب، ورغم هذا فإن بعض دور النشر قد تنبهت مؤخرًا للأمر، وبدأت في ترجمة الأعمال المصورة الهامة، وهي إن كانت بداية متأخرة إلا أنها مهمة”.
الترجمة والكوميكس
على ذكر الترجمة سألنا محمد البعلي مدير دار صفصافة للنشر والتي سبق وأصدرت عددًا من الكوميكس المترجمة عن أسباب عدم نشر الدار لأي أعمال لمؤلفين ورسامين مصريين، فأرجع السبب إلى مشاكل في كتابة السيناريو لدى فناني الكوميكس المصريين، يقول البعلي: “معظم الفنانين المصريين رسامون لا يريدون تعلم كتابة السيناريو، ما يجعل المحتوى ضعيفًا في كثير من الأوقات، ويجعل عدد القصص المصورة الجيدة المتاحة أمام الناشر قليلة جدًا، وبالتالي نذهب إلى ترجمة الكوميكس العالمية”، المشكلة التي يطرحها البعلي كسبب من أسباب تأخر الفن، ويتفق عليها كثير من الناشرين الذين تحدثنا معهم، تختلف معها المؤلفة ورسامة الكوميكس الشابة دينا محمد مؤلفة رواية “شبيك لبيك” الحاصلة على جائزة أفضل رواية مصورة في مهرجان كايرو كوميكس الثالث والصادرة عن مركز “المحروسة” حين تقول: “لا أعتقد أن السيناريو يمثل أزمة تعيق الفن، بعض رسامي الكوميكس لا يجيدون كتابة السيناريو، وبعضهم يجيد، وهناك كتاب سيناريو لا يرسمون أصلًا، المجال مفتوح، ويضم أكثر من تخصص، في الخارج يمكن أن تجد رسامًا ومعه ملون، كل مهمته تلوين المرسوم بناء على سيناريو لم يكتبه لا هو ولا الرسام، ليس من المنطقي أن نعتقد أن الفنان لديه مهارات التأليف والرسم بنفس الدرجة من القوة والحرفية، يجب أن يكون هناك محرر أدبي يحرر النص ويطور من القصة حتى في حالة الرسامين الذين يستطيعون الكتابة وبالتالي فالأزمة لدينا هي أزمة سوق وليد، لم يستطع بعد أن يقدم الدعم لكل عناصر الفن، وليست أزمة رسامين أو كتاب سيناريو، أنا محظوظة لأن روايتي ستنشر كون مركز المحروسة مهتم بفن الكوميكس، لكن هناك مئات الفنانين الذين لا يجدون من ينشر لهم، في المجمل لا يوجد فنان كوميكس واحد متفرغ لكتابة ورسم الكوميكس، الكل يعمل في مهن إضافية كي يستطيع العيش”.
ورغم الخلاف النسبي في الرأي بين الناشر والمؤلف حول حرفية رسامي الكوميكس المصريين وقدرتهم على كتابة السيناريو، إلا أنهما يتفقان في مسألة صعوبة عمل وحياة فنان الكوميكس، تقول دينا: “يستغرق العمل على كتابة ورسم القصة المصورة شهورًا عديدة، يطبع الفنانون رواياتهم بأنفسهم، ويحاولون تسويقها ذاتيًا، هذا مرهق للغاية، ونحتاج إلى دعم كبير”، ويقول المؤلف والرسام خالد الصفتي: “أعتقد أن هذا هو دور وزارة الثقافة، يجب أن تقدم دعمًا حقيقيًا لهذا الفن”، أما الناشر محمد البعلي فيعتقد أن هذه المصاعب التي تواجه فنان الكوميكس واحدة من أهم مشاكل الفن “الكثير من فناني الكوميكس يتجهون بعد فترة لرسم الملصقات الدعائية، أو رسم الكاريكاتير، المسألة أسهل وأقل جهدًا، وأربح على المستوى المالي، أعتبر هذه الخطوات خطوات إلى الخلف، ولكن السوق ليس بالقوة الكافية التي تمكن الفنانين من التفرغ للكوميكس”.
الصحف الثقافية تتحمل جزءًا من المشكلة
ومع احتدام النقاشات حول الأسباب التي تعيق تقدم فن الكوميكس في مصر والعالم العربي، يطرح مجدي الشافعي مشكلة جديدة على طاولة النقاش، ويحمل الصحف الثقافية جزءًا من الأزمة فيقول: “ليس لدينا ناقد واحد متخصص في فن الكوميكس، ولا عمود واحد في أي صحيفة مهتم بالفن، الحراك النقدي حول الكوميكس سيدفع الأمور إلى الأمام، وسيشجع الجمهور على الاطلاع، حتى وإن افترضنا أن السوق المصري ضعيف الآن، وليس لدينا الكثير من الإصدارات التي يمكن للنقاد تناولها، فالسوق العالمي ممتلئ بالأحداث والروايات والكتب المصورة، يمكن أن يكون هذا العمود حال تبنته إحدى الصحف نافذة على فن الكوميكس في الوطن العربي، والعالم”.
التجربة لم تكتمل بعد
والسؤال هنا، إذا كان الكوميكس محاطًا بكل هذه المخاطر والمصاعب، فما هي أسباب إقدام بعض دور النشر على نشره مؤخرًا؟، عبد الله صقر مدير النشر بمركز المحروسة يجيب على هذا السؤال قائلًا: “في العشر سنوات الأخيرة أصبح الطلب العالمي على المحتوى البصري متزايدًا، حتى أصعب الكتب وأعقدها صارت تصدر الآن مبسطة ومصحوبة بالرسوم، المزاج العام للجمهور تغير، في عصر الإنترنت والتواصل الاجتماعي، يميل القارئ للتواصل البصري مع ما يقرأ، نحن نراهن على هذا التحول، والحقيقة أنه لا يمكن الحكم على فن الكوميكس بالفشل لأن تجاربًا مصرية وعربية سابقة لم تكن ناجحة بما فيه الكفاية، هناك عوامل كثيرة أدت إلى هذا، فمثلًا لا يمكن أن تحكم على تجربة نشر الروايات المصورة ما لم يكن لديك 20 عنوانًا على الأقل، حتى تجربتنا في المحروسة لن نحكم عليها بالنجاح أو الفشل قبل أن نصل إلى هذا العدد، مسألة السعر أيضًا عامل مهم، فالتجارب السابقة فضلًا عن كونها كانت محدودة، فإنها كانت مرتفعة السعر أيضًا، نحاول من جهتنا أن نقدم أسعارًا جيدة، وأتمنى أن تدخل أعداد كبيرة من دور النشر إلى سوق الكوميكس، ولا تخشى التجارب السابقة لأنها في نظري لا تعبر عن الحقيقة، نعتقد أن هناك تعطشًا لهذا الفن، وجمهورًا سيقبل على الشراء خاصة وأن مشاكل التوزيع باتت اليوم أقل مع تزايد أعداد المكتبات الخاصة في المحافظات، أعتقد أن إقبال دور نشر أكثر على الكوميكس سيعود بالنفع على الجميع، لأنه سيلفت نظر القارئ، أما العمل المنفرد فهو يصعب الأمور أكثر”.