كان الدكتور أحمد خالد توفيق دائم التحفظ على أي مديح يوجه إليه، يقول “أفضل ألا أتلقى أي إطراء، مقابل ألا أتلقى الشتائم”، كان بسيطًا، واضحًا، متسقًا مع ذاته، مائلًا للهدوء، يكره الصخب ويقوم بما يقوم به بدافع الحب والارتياح لما يفعل دون حسابات معقدة، ودون تصنع، تزخر حياته -كما أدبه- بالكثير من الحكايات، فهو حكاء تحولت حياته إلى حكاية طويلة يرويها محبوه، والحقيقة أني حين بدأت التنقيب وراء الجوانب الإنسانية في حياة العراب الراحل، واجهتنا -بعكس الطبيعي- صعوبة مردها إلى كثرة المصادر، الكل يحمل حكاية ما مع الرجل، المقربون منه كثر، وجمهوره الواسع كان على تواصل شبه مباشر معه بوسائل متعددة، جهود البحث إذًا -مهما تكثفت- لن تحصر الكل، والموضوع -وإن طال- لن يضم كل الحكايات، لكنه على كل حال سيعطي صورة صحيحة ووافية للجانب الآخر من حياة الروائي الكبير عبر مجموعة من أصدقائه المباشرين أو حتى الذين عرفهم مراسلة في البداية.
إذا لم تلتفت لدروسك فسأتصل بالدكتور أحمد
البداية من طنطا مسقط رأس العراب، حاورنا فيها صديقين قديمين له، لم يتجاوز أكبرهم الثلاثين بعد!، الأول هو أحمد الفقي المدير التنفيذي لمؤسسة “Cairo media school” الذي قال: “تعرفت على دكتور أحمد قبل عام 2005، وعمري ثلاثة عشر عامًا، كان منتدى “شبكة الروايات التفاعلية” يقيم فاعليات في القاهرة للقائه، ولم أكن أعرف أنه من طنطا، أثناء الحديث عرف أني من هناك، فأصر على أن أعود معه، وأوصلني إلى منزلي، ثم عاد واتصل بي في المنزل، ومن هنا بدأت علاقتنا التي استمرت حتى وفاته”
خلال هذه الرحلة الطويلة يخبرني “الفقي” بتفاصيل دقيقة عن الروائي الكبير، يؤرخ لما يتحدث عنه العراب لاحقًا فيقول “جئت بالقاهرة إلي، ولم أذهب أنا إليها”، فيقول: “بعد تعرفي على الدكتور، بدأنا في توسيع دائرة معارفه في طنطا، وانضم إلينا أطفال وشباب من أصدقائي، وأحطنا بالرجل الذي مثل لنا أبًا حقيقيًا، واقترحنا عليه أن ينقل الإفطار الرمضاني الذي كان محبوه يقيمونه على شرفه كل سنة إلى طنطا بدلًا من أن يذهب هو إلى القاهرة، فرحب بالفكرة، ونفذناها للمرة الأولى عام 2008، بعدها بدأ محمد ابن الدكتور أحمد ينضم إلينا ويحضر إفطاراتنا، ونشأت بيننا صداقة، شكلت فرصة أكبر للاقتراب من العراب، وزيارة منزله ومكتبته الكبيرة.”
وعن تطورات علاقته بكاتبه المفضل يقول “الفقي”: “كنت متعلقًا به بشدة، وكانت والدتي تهددني إذا ما أغضبتها أو قصرت في دروسي أنها ستتصل بالدكتور وتشكوني له، لم تكن والدتي تعلم رقم هاتفه، ولكنها كانت تعلم شدة تعلقي، وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر في هذا التهديد، في المرحلة الثانوية مثلًا كنت أخرج من دروسي وأذهب لزيارته في مكتبه بكلية الطب كل أسبوع، وحين التحقت بكلية الإعلام واضطررت للمغادرة إلى القاهرة، كنت أقضي كل إجازاتي بمكتبه هناك لدرجة أنه اعتقد لفترة أني طالب هناك”
يتذكر “الفقي” أيضًا الأحداث ما بعد ثورة يناير، كيف كان يجمعهم على المقهى ويستمع لآرائهم في الأمور، وكيف كان يتصل به مع كل حدث كبير ليطمئن عليه، لمعرفته بعمله كمراسل في هذه الفترة، يقول عن هذا: “أهم ما لدى الدكتور أنه يعرف متى يكون أبًا، ومتى يتحول أخًا، ثم متى وكيف يصير صديقًا حين يدرك أنك اليوم قد كبرت، كان يستمع إلينا باهتمام، دون مقاطعة، بل ويأخذ بوجهة نظرنا في الأمور أحيانًا، لم يكن متعاليًا ولا متسلطًا، كان صديقًا حقيقيًا، وكنا نظن أنه يخصنا بهذه المعاملة -نحن أصدقاؤه من الشباب في طنطا- ولكنا اكتشفنا بعد وفاته أننا كنا عاديين جدًا، وأن الجميع يحمل ذكريات معه، وأن طريقة معاملته مع الجميع كانت بهذا الشكل، أذكر أنني عاتبته مرة على كونه متاحًا أكثر من اللازم، كل من يتصل به يرد، كل من يريده في أمر لا يتأخر، قلت أن هذا سيرهقه وسيضر بالمسافة التي كنت أعتقد أنها يجب أن تكون موجودة بين الأديب وقرائه، أعترف أن في الأمر شيء من الأنانية أيضًا، أردنا الاستئثار به، يوم وفاته، هذا الحزن الذي تفجر في الجميع، هذه الحكايات الشخصية التي ظهرت مع الكل، أثبتت أن طريقته في إدارة الأمور، والاقتراب الشديد من الناس والعيش وسطهم كانت الطريقة السليمة والتي تليق به فعلًا”
الصديق الطنطاوي
يؤكد الطبيب الشاب محمد صلاح قاسم صديق الدكتور أحمد خالد توفيق، وتلميذه بكلية الطب، على ما قاله “الفقي”، يقول :”كان الدكتور واحدًا منا بحق، التقيته للمرة الأولى في سنتي الثانية في كلية الطب بجامعة طنطا، حيث كان يعمل أستاذًا هناك، صافحني بحرارة كأني صديق قديم، وكانت هذه عادته، مصافحة الجميع بود وكأنهم أصدقاء، توطدت علاقتنا بعدها عن طريق المجموعة الأدبية التي أحاطت به في طنطا، عرفني به صديق مشترك، أذكر كيف كان يقبل آراءنا، ويناقشنا، ويترك مساحة للاختلاف بود، وأذكر أيضًا يوم أخبرني صديق أنه استشهد بمقال لي، ذهبت لأقرأ المقال فوجدته يعرفني “طبيب شاب وصديق طنطاوي في الوقت ذاته”، مثل هذه اللمسات تخبرك من هو أحمد خالد توفيق، لا يتعالى على الاستماع، وينسب الأمور لأصحابها وإن كان صاحبها طالب تعلم على يديه في كلية الطب”
يتابع: “لم أقض وقتًا طويلًا في الحقيقة مع أحمد خالد توفيق الأستاذ الجامعي، فمادته كانت مادة ضمن منهج الباطنة، وبالتالي كان عدد محاضراتها محدودًا، ولم يمتحنني شفويًا، لكن من امتحنهم من أصدقائي يتحدثون عن إيقافه للامتحان أكثر من مرة لإعادة شرح النقاط الغامضة حال لم يستطع الطالب إجابته، كانت فكرة وصول المعلومة هي شاغله الأول، ولم يكن يستعرض أو يتصنع في ذلك”
وعن صورة لا ينساها مع الدكتور أحمد قال قاسم: في إفطارنا الأخير بطنطا طلبت منه “نتصور صورة عميقة اللي هي فيها حطة الصوابع الأوفر تحت الدقن، ضحك وقالي ماشي يا صلاح، والتقط لنا صديق هذه الصورة الغالية علي”.
صورة على الغلاف؟َ! .. هو أنا توفيق الحكيم ولا نجيب محفوظ؟
من طنطا إلى القاهرة حاورنا نيفين التهامي المدير التنفيذي لدار كيان -إحدى دور النشر التي تنشر كتب العراب- والتي أكدت أن علاقتها بدأت بالعراب طفلة وشابة تقرأ له، القراءة التي جعلتها وزوجها يحلمان بالنشر للعراب حين افتتحا دار كيان، “في البداية أبدى الدكتور ترحيبه بالأمر، ولكنه أكد على ارتباطه بعقود مع دور نشر أخرى، وطلب منا الانتظار حتى نهاية المدة، بعدها نجحنا في شراء حق نشر 22 كتابًا من دار ليلى فتحقق حلمنا أخيرًا وبدأنا مرحلة التجهيز لإصدار الطبعات الجديدة”
“استأذناه في أن يصمم أحمد مراد أغلفة جديدة للمجموعة التي حصلنا على حق نشرها، فأجابنا مراد ابني، أرحب طبعًا، وكانت فكرة مراد أن يستخدم صورًا التقطها للعراب كأغلفة للكتب، وكنا نعلم مدى تواضعه ونتحسب للرفض، ما تحقق فعلًا حين رفض هذه الفكرة بإصرار، قائلًا “اللي تحطوا صورهم على الغلاف دول توفيق الحكيم ولا نجيب محفوظ”، ولم نستطع أمام رفضه سوى تحقيق رغبته، فصدرت الأغلفة وقد حملت اسمه بخط أكبر من اسم الكتاب نفسه، وكانت هذه لمستنا التي نريد أن نقول له بها أنت أهم لدينا حتى من عنواين الكتب”
وعن أخر مرة التقت فيها العراب قالت: “عادة ما كنا نتصل به لنطلب تحديد موعد، ولكن في مارس الماضي اتصل بنا هو، وأبلغنا أنه يريد رؤيتنا وجاء إلى القاهرة والتقينا بالفعل، حين أفكر بهذا الأمر أعتقد أنه كان يريد توديعنا، كانت وفاته فاجعة مفاجئة، لكنه باق فينا جميعًا بكل تأكيد، على المستوى الإنساني علمني هذا الرجل التواضع والبساطة الشديدة، على كل ما وصل إليه من شهرة ومحبة وتأثير كان يتعامل بكل هذه التلقائية، فكيف يتعامل من لم يصل إلى هذه النقطة؟”
كنز في البريد الإلكتروني
أثناء رحلة بحثنا، كان البريد الإلكتروني أكثر ما لفت النظر، أحمد الفقي يحدثنا عن رسائله المتبادلة مع العراب، نيفين التهامي تحدثنا عن إغلاقه لهاتفه أحيانًا، مع التأكيد على كون البريد الإلكتروني هو وسيلة التواصل حال الاحتياج إليه، وقراء آخرون يتحدثون عن فترة منتدى “شبكة الروايات التفاعلية” والتبادل الدائم للرسائل مع العراب، الذي لم يكن قد رآهم أبدًا قبلها.
من هؤلاء علياء طلعت رئيس قسم الفن بموقع “أراجيك” التي حدثتنا عن علاقتها بأدب الدكتور أحمد خالد توفيق، والتي بدأت متأخرة مع نهاية مرحلتها الثانوية في مسقط حيث كانت تعيش، “كنت أعيش في مسقط، وكان ما يصلنا من سلاسله نادر جدًا، لكني وقعت في غرامها، ولم تبدأ علاقتنا المباشرة إلا في 2008 حين عدت إلى مصر وذهبت لتوقيع روايته “يوتوبيا” والتي ضاعت مني في طريق العودة بشكل مضحك للغاية، فطلبت من صديقة لي أن توقعها باسمي في حفل توقيع تالي، ولكنه -رحمه الله- كان يملك ذاكرة قوية جدًا، وانتبه لأنه وقع لهذا الاسم سابقًا”
تتابع علياء حديثها، وتروي كيف انضمت لمنتدى “شبكة الروايات التفاعلية” وكيف كان الأديب الراحل مهتمًا بقراءة ما ينشر، والرد على القراء بشكل شخصي، ويأخذها الحكي إلى نقطة المراسلات المتبادلة مع العراب فتقول: “تعرفي به كان نقطة تحول في حياتي، حين عدت إلى مصر كان كل شيء غريبًا علي، وكنت منطوية جدًا على ذاتي، وجوده أحدث الفارق، تواصلنا عبر البريد الإلكتروني، قبل حتى أن أصبح عضوة فعالة في منتدى الروايات، كنت استشيره في كل شيء، وكان يطمئنني بوجوده، ونصائحه، ربما سمعت عن رسائله المتبادلة حول السينما والأدب مع قرائه، كانت تجربتي مختلفة قليلًا، كنت استشيره حتى في الأمور الشخصية، وكان عظيمًا لدرجة أن يشعر كل قارئ لديه أنه أهم قرائه، وأن بينهم معرفة شخصية، ولعل هذا ما يفسر كل هذا الحزن الذي أحاط بنا حين أعلن خبر وفاته، فهو لم يكن مجرد كاتب عادي، بل كان أخ وصديق وأب أحيانا”
وتضيف: “أثر في هذا الرجل على كل المستويات، فعشقه للسينما أفادني في عملي لاحقًا كمحررة فنية، وطريقته في الاستماع والتعامل بغير استعلاء استلهمها اليوم في تربيتي لابنتي”.
والحقيقة أن الأمر لم يقتصر على البريد الإلكتروني فقط، فقد حرص أصدقاؤه القدامى في المنتدى على التجمع وزيارته في طنطا أحيانًا ومن ذلك ما ترويه علياء حين تقول:”أخر مرة التقينا الدكتور، كانت في يونيو 2016، احتفالًا بعيد ميلاده، سافرنا إلى طنطا لنراه، وقدمنا له هدية على شكل فانوس بمناسبة اقتراب شهر رمضان، بالطبع يستحق أكثر من ذلك بكثير، ولكن حتى هذه الهدية الرمزية تسببت في شعوره “بالكسوف”، فقد كان إنسانًا بحق، الإنسانية هي التي جعلته، يعترف بخوفه، فشله، وتجاربه، هذه التجارب التي جعلته يحس بنا دائمًا وينجح في التعبير عنا”