ربما لا يعرف كثيرون أن الروائي الراحل الدكتور أحمد خالد توفيق بدأ حياته الأدبية طفلًا يحاول نظم الشعر، قبل أن يقرر في عام 1989 وقبل أربع سنوات من ظهور العدد الأول من سلسلته الأشهر “ما وراء الطبيعة” التوقف نهائيًا عن قول الشعر، والاستقالة التي أوضح أسبابها حين قال مخاطبًا الجماعة الشعرية في مقال نشره عام 2013 “سبب هذه الاستقالة لا يعود لسوء معاملة، فأنتم قد أحسنتم استقبالي والاحتفاء بكل ما أكتبه، ولكنه بسبب عثوري على شاعر حقيقي. شاعر يحترق من أجل الكلمة، ويشيخ بضعة أعوام كلما كتب بيتين من الشعر، وهذا الشاعر الذي علمني معنى لفظة شاعر فعلاً، هو (أمل دنقل). لا يمكن أن نطالب الجميع بأن يرسموا مثل بيكار، أو يكتبوا الموسيقا مثل موتسارت، أو يلعبوا الكرة مثل مارادونا. لابد أن يكون هناك أناس أقل شانًا وموهبة لتستمر الحياة، ولهذا كان بوسعي أن أستمر في كتابة الشعر وأتناسى هذا الوحش المرعب القادم من الصعيد، لكن لنقل بصراحة: إن أمل دنقل قال كل ما أردت قوله بشكل أعمق وأشجع وأروع.”
وعلى معرفتنا برأي الأديب الراحل في شعره، وإصراره الشديد على عدم أخذ ما كتب من شعر بجدية، إلا إننا نعلم أيضًا أنه كان يحب هذه الأشعار -وإن ظل يمنع جمعها في كتاب حتى وفاته المفاجئة- ويتداولها على نطاق ضيق بين المقربين من قرائه، تخبرنا المديرة التنفيذية لدار كيان -أحد دور النشر التي نشرت للعراب- أنه حدثها ذات مرة عن حلمه القديم بجمع أشعاره في كتاب، وأنها حين سارعت إلى عرض قيام الدار بهذه المهمة، ضحك الرجل رافضًا الأمر بدماثة خلقه المعهودة، كنا إذًا أمام شعورين يقسمان نفس الأديب الراحل، شعور الحب للشعر ولما كتب من أشعار، وشعوره بضعف ما كتب، وبكونه كتب في ظروف وفي سن لم تسمح بأن تكون التجربة جادة.
من هذه النقطة بدأنا رحلة التفاوض مع مصادرنا، الذين تحفظوا في البداية على إمدادنا بهذه القصائد على اعتبار أنها لم تكن ترضي الراحل العظيم، وأنه حين تداولها، تداولها على نطاق ضيق للغاية، ومن خلال منتديات أدبية تضم قرائه على الانترنت، ولكن وجهة نظرنا -التي كتب لها الانتصار بعد جولة من المفاوضات- ترى أن جمع وتوثيق هذه الأشعار لا تحكمه اليوم معايير نقدية تحكم على هذا الشعر، بقدر ما تحكمه عوامل تأريخية، تهتم بالأساس بجمع الأعمال المنسية والمجهولة للأدباء المؤثرين، وتعني بدراسة مراحل كتابتهم المبكرة، الأمر الذي لا يعد جديدًا على المكتبة العربية، أو على الصحافة الثقافية، وعليه فإن هذه النماذج من شعر دكتور أحمد خالد توفيق والتي نعرضها اليوم، وإن كانت قدمت على منتديات في أوقات سابقة على شبكة الإنترنت، إلا أنها لم تنشر في صحيفة ثقافية من قبل، ولم تعرض على غير قرائه المقربين من رواد هذه المنتديات، ونحن وإذ نقدم هذه النماذج اليوم إنما نقدم للشباب من محبي الرجل وثيقة تاريخية، تحفظ للأجيال القادمة في أرشيف الصحافة المصرية للمرة الأولى، ونفتح الطريق أمام الباحثين للتنقيب عن بقية القصائد المتناثر منها على مواقع الإنترنت، والذي لم يسبق نشره أبدًا.
***
تان تان كانت البداية
ظهر اسم العراب للمرة الأولى على الورق طفلًا في عمر الخامسة عشر، حين أرسل لمجلة تان تان نقدًا حادًا بسبب قيام أحد القراء بسرقة مقال من مقالات جريدة “المختار عن الرايدرز دايجست” التي كانت تصدر عن دار أخبار اليوم في مصر قبل الحرب، ونشره باسمه، ورغم أن توفيق -الطفل حينها- لا يحمل الجريدة مسؤولية فساد ضمير هذا القارئ، ولكنه يشن هجومًا عليه بسبب هذه السرقة الأدبية، وتبدو ملامح السخرية التي ميزت أعماله لاحقًا ظاهرة في هذا المقال حين يقول “إنه لم يغير حتى حرف جر أو حرف عطف منها، حتى إني أسائل نفسي إذا لم يكن قد قص المقالة -بدلًا من مشقة نسخها- ووضعها في الظرف”
عقب المقال الحاد تنشر المجلة قصيدة مرسلة من نفس الطفل الموهوب بعنوان “قصة حب”، يشير فيها إلى أنه اقتبس فكرتها من ترجمة أغنية “Love story” التي كانت لحنًا مميزًا لفيلم يحمل نفس الاسم، في هذه الوثيقة المهمة والتي تم تداولها على نطاق واسع على منصة التواصل الاجتماعي عقب إعلان خبر وفاة الروائي الراحل، عدد من الإشارات إلى شخصية الرجل منذ كان طفلًا وحتى وفاته بعدها بأربعين عامًا، فهو يعشق الأفلام، ويحب السينما، ويقتبس من ترجمات أغنياتها، وهو مدرك منذ اللحظة الأولى لأهمية الترجمة والتواصل الثقافي مع الآخر، تبدو علامات أسلوبه الساخر مبكرًا كما أشرنا، ويوقع باسمه في نهاية القصيدة “من الصديق أحمد خالد توفيق … طنطا 1 شارع جامع المنشاوي .. فوق قهوة لمنوس .. من هواة المراسلة” الجملة الأخيرة التي تؤكدها شهادات متعددة لقراء أكدوا تواصلهم الدائم معه عبر البريد الالكتروني ورده الذي لم ينقطع على رسائلهم، رغم عدم وجود معرفة سابقة، للأمر أصل إذًا، فهو من هواة المراسلة منذ كان طفلًا.
نماذج من شعر ما بعد الطفولة
لحظة يــأس – إبريل 1986
======
سئمت الجميعا !
ومهما تفانيت ما عاد يجدي
ومهما تماديت فاليأس لحدي
لأن التمادي – مهما تمادى –
سيبقى على الأرض
غّرًا وضيعا
ويفنى مع الحزن في ذات قبري
كفانا افتعالاً
كفانا خداعا !
ومهما تحديت
يفني التحدي
لأني – رفاقي – سئمت الصراعا ..
*****
لقد مل (سيزيف)
حقًا تعافى
وقد عاش يجتر تلك السخافة
ترى هل تدارك تلك الحقيقةَ
أن البطولاتِ وهم .. خرافة ..؟
وأن التحدي للصخر وهم
وإن كان وهمًا يمس الشغافا ..؟
*****
لقد عاش يلتذ طعم التحدي
ولو كان يدري هباء التحدي
ولو كان يدرك أنا نسينا
وأنا تخذناه رمز التردي ..
لأدرك مثلي هباء التفاني
وجلجل في الناس:
لا شيء يجدي !ّ
***********
سئمت الجميعا !
سئمت أحاسيس ذاتي جميعا
سئمت أحاديث قومي جميعا
وما عدت أبكي كما كنت أبكي
وما عدت ألهو كما كنت ألهو
وما عدت أهوى كما كنت أهوى
لأني – ملاكي –
سئمت الربيعا !!
*****
سئمت الجميعا
سئمت التفاهات من كل صوب
تلوح لأعيننا المنهكات
وعودًا
ونورًا
وحلمًا بديعا ..
نطاردها .. ننحني .. نحتويها ..
ونحسب أنا احتوينا الربوعا ..
وننسى حقيقة أنا جرينا
وننسى مهانة أنا انحنينا
وننسى .. وننسى سوى ما جنينا ..
وتمضي ثوان
فندرك انا خُدعنا بقسوة ..
وأن التفاهات في الأفق أروع !
***********
ومهما تأوهت فالشعر يفنى
ومهما تكتمت فالصمت يفنى
وحتى إذا ذبت في الغير نفني
لهذا أغني
سئمت الجميعا !
الرعب القاتل – أكتوبر 1983
=====
لقد قررت أن أهواكِ
لا ماوى .. ولا مهربْ !
ومهما صحتِ
من ينجيكِ
مني حينما أرغب ؟
ومهما قلتِ، أو قاومتِ، أو حاولتِ أن تنسي
فلن أنسى..
ولا مهرب ْ!
*****
ومهما لذتِ بالإطراق أو بجدار إيماءةْ ..
ومهما اهتز منك الرأس
أو همهمتِ مستاءة ..
فلا جدوى ..
أنا في كل منعطفٍ ..
أنا في رقصة الأحلام ..
بل في كل إغفاءة !
**********
سأصنع أروع الأصفاد تغفو حول ساقيكِ
وآلافًا من الأبيات كي تلتف
– كالثعبان –
حول حرير كفيكِ
ستفعم صدري النيرانُ والدخان في حلقي..
ولكني
– برغم النار والدخان –
أهوى لذة الخلقِ !
فلا تبكي ..
سأبني حولك المعبدْ
ومن عاجٍ ومن عسجدْ
سأنحت ألف تمثال
ومن أدغال آلامي
سأجلب من ضواري الغاب
ترهب كل من يرغب ْ !
*********
ولكن
طفلتي عذرًا ..
على طوفان تهديدي
فإني أمقت الأصفاد
أجهل ما هو (العسجدْ)..
وما علمت كيف أذيب
من فولاذ أحلامي
لأبني تلكم الأسوار . ذاك القصر .. والمعبد ..
أنا عشقٌ ..
وليس لدي ما يُخشى سوى إيقاع أبياتي ..
أهدد حينما أخشى
وأبكي عندما أغضب ..
وأخشى ملمس الريحان أن يدمي ذراعيكِ
فكيف أريد للأصفاد
تغفو حول كفيك …؟
*********
لقد قررت أن أهواكِ
لا مأوى سوى حبي ..
وإن ضاقت بك الدنيا
فقصرك هاهنا .. قلبي.
لحظة الحقيقة – 1978
____________________
حاولي أن تفهميني
لا تزيدي من أنيني
جففي أمطارَ حزنك، وانصتي لي واسمعيني ..
*****
أنت عصفور كسير لم يجد في الكون حبّا ..
عشت تشتاقين قلبًا مرهفًا
يحنو عليك
عشت تشتاقين كفًا
تدفنين بها يديكِ
عشت تحتاجين حبًا ..
فوق نفس الدهر سرنا
والتقينا
صرتُ صبًا !
كنتِ عاطفة وحسبي ..
كنتِ سحرًا ..
كنتِ عشقًا ..
كنتِ قلبًا ما أحبّا ّ!
*****
حاولي أن تفهميني
لا تزيدي من أنيني
جففي أمطار حزنك، وانصتي لي واسمعيني ..
إنما الصدق جواد
فوق صخر العطف يكبو .
والحقيقة كاللهيب
في سيول الدمع تخبو ..
*****
حاولي أن تفهميني
لا تزيدي من أنيني
إنما الأحزان قبر
فيه تنطمر الحقائق تحت أقدام المنونِِ..
إنما الشهقات درع
منه ترتد الصراحة ..
نحو صدري…
صدقيني ..
*****
حاولي أن تفهميني
لا تزيدي من أنيني
جففي أمطار حزنك وانصتي لي واسمعيني ..
ساعديني ..
كي أحررنا سويًا من دهاليز الجنون .
لو جبنتً اليوم ضعفًا
من توسلك المحبب..
من نداء في العيون ..
سوف يبقى كل شيء ..
سوف يحيا كل شيء .
سوف تخنقني الحقيقة ..
حاولي أن تفهميني ..
في عام 2014 وبعد 36 عامًا من كتابة هذه القصيدة علق الدكتور أحمد خالد توفيق عليها قائلا: ” توجد أخطاء شبه قاتلة لكني كرهت أن أصححها بعد كل هذه السنين .. مثلاً (سويًا) لا تعني (معًا).. كذلك لا توجد لفظة (تحتاجين) من دون حرف جر بعدها .. لنقل إنها السن .. لنقل إنها الضرورة الشعرية”
شرايين تاجية – 1987
قد شاب صغيرك يا أمي ..
ما عاد بريئًا يا أمي..
ولكم قد هادن وتراخى
ولكم قد نافق وتنازل ..
ولكم داهن !
****************
صدأ الأعوام يغلفني
وغبار الرحلة يعميني ..
أبخرة التبغ مع الحسرة
تتسرب من صدري الفاني ..
حقًا
قد واجهت الدنيا ..
حقًا
قد حاربت الدنيا ..
هزمتني ..
لم أفهم هذا ..
ومضيت أغني ألحاني ..
سحقتني الدنيا لكني
لم أعلن هذا يا أمي !
****************
قد شاخ صغيرك يا أمي ..
ما عاد صغيرًا يا أمي ..
قد غادر مهدك كي يعرفْ
لكني حقًا لم أعرفْ
ابتعت فراء الحملانِ..
جربت مسوح الرهبانِ..
ولبست دروع الفرسانِ ..
لكني
ـ أقسم يا أمي _
لم أخدع إلا مرآتي ..
حتى في ثوب الشيطانِ
لم أدرك معنى لحياتي ..
ولعمري هذي مأساتي ..
****************
سيموت صغيرك يا أمي ..
أحلام شبابي أضنته
وقروح الماضي أدمته ..
أجتاز مدينة إحباطي
إكليل العار على رأسي !
إني أحيا
حقًا أحيا !
وبرغم تخاريفي أحيا
وبكل أكاذيبي أحيا ..
وبدون طموحاتي أحيا ..
والناس جميعًا إن كانوا
قد هزموا في الدنيا مثلي .
إن كانوا قد كذبوا مثلي ..
فبأية معجزة ننسى ؟
وبأية معجزة نحيا ؟
أجيال
قد هُزمت قبلي ..
وستُهزم أجيال بعدي ..
فلماذا
ـ عفوًا يا أمي ـ
يكسوني العار أنا وحدي ؟
****************
كي أكمل هذي الأغنية
لا يوجد عمر يكفيني ..
أنواء الليل تحاصرني ..
وتضيق
تضيق
شراييني
وحدي أحلم – 1982
كم كنت أرجو لو غدوتُ بلا مدى
بحرًا عميقًا غامضًا متجددا
لو أن أحلامي غدت ترنيمةً
من بعد ما تمضي يرددها الصدى
لو كنت أبصر في ضباب عواطفي
ضوءًا بسيطًا .. أو بصيصًا من هدى
لو كنت أنهض من فجاج كآبتي
لو كنت أنسى ان أيامي سُدى
**************
أرجو الكثير وفوق عرش مآربي
كم كنت أرجو لو غدوت سوى أنا
***********
منذ الصبا قد كنت طيفًا ضائعًا
في ظلمة الحزن الكئيب الساحقِ
ما كنت أحسب في الوجود حقيقة
إلا وجودي .. بل وجود تشككي
ما كنت أحسب للحياة وللردى
مغزى سوى لهو طويل مرهقِ
يا ليتني ما كنت أقتات السدى
وأضل في بحر الضياع بزورقي
يا ليتني ما عشت أحطْمُ مهجتي
في كل يوم فوق صخرة منطقي
***********
أرجو الكثير وفوق عرش مآربي
كم كنت أرجو لو غدوت سوى انا