تستمد سلسلة الدراسات الشعبية التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة أهميتها من كونها نافذة على التنوع الثقافي والإنساني للمجتمع المصري الواسع، والمتباين بشدة، تطرح تساؤلات حول ندرة الأعمال الأدبية التي تتناول الصحراء، المناطق الحدودية والواحات، وحول مدى إدراك المصريين لطبيعة بلادهم، والحقيقة أن مصر تظل مجهولة بالنسبة لأغلب المصريين، بل ولأغلب المثقفين والأدباء، يعرفون منها جانبًا ويجهلون جوانبًا، والحق أن الأدب المصري يهدر اليوم على نفسه فرصًا عظيمة حين يتغاضى عن هذه الثقافات، ويصر على الكتابة من المكان، الكتابة على الثابت، وعن الثابت وإن تغيرت التكنيكات والأساليب.
أمثال ورحى وسينما
في الكتاب المهم “لمحات من الأمثال الشعبية في الواحات” يستعرض الكاتبان طارق فرج وأيمن نور، عددًا من الأمثال المتداولة في واحة الداخلة كنموذج معبر عن الواحات بشكل عام، الكتاب تعبير حقيقي عن بيئته، مناقبها ومثالبها، كثير من الخير “اللي ميطولش باله ميربيش عياله”، “اللي صبر نال واللي جهل ندم”، وكثير من الذكورية والعنصرية أحيانًا “الدكر دكر ولو كان فار”، “يا واخد السودا يا معدي الزمان حزين، ضيعت مالك على كسبه وجالوص طين”.
تتناول الأمثال المفاهيم الذهنية لأهل الواحات ومواقفهم من الحياة، تتحدث في كل شيء، الزواج والإنجاب، الطمع والرزق، الصبر وسوء الحظ، تروي حكاياتهم في سطور قصيرة ومؤثرة في المجتمع البدوي المحتكم بالأساس لثقافته الشعبية وأعرافه.
على نفس الخط تقريبًا كتب الباحث والشاعر قدورة العجني كتابه “مهاجاة الرحى” من فن الرباعيات المطروحي، والمهاجاة هي المحاكاة، فالكتاب تجميع لأكثر من 500 رباعية من فن مهاجاة الرحى المكون من بيتي شعر بقافيتي عجز وقافيتي صدر، والذي دأبت النساء قديمًا على نظمه أثناء عملها على الرحى، ولا يزال هذا الشكل من الشعر موجودًا عند قبائل السليمية في مطروح وشرق ليبيا.
في الكتاب -كما في لمحات من الأمثال الشعبية في الواحات- تعبير صادق عن جوانب الحياة المختلفة، اشتباك مع القضايا الإنسانية شديدة البساطة، ورؤية لأبعاد اجتماعية وتاريخية بعيون المرأة المطروحية، وبتنوع كبير في أغراض النظم ما بين النصح، الحكمة، الفخر، الهجاء وغيرها من الأغراض الشعرية.
من الفخر: من النصح:
الغالي يفرق طعامه على فارغين المزاود يا خوي ودي نوصيك الدم الردي ما يونس
ويشتري الثنا ما يبيعه على الله يجينا معاود أنشد على بنت الأصول كيف الكحيل المجنس
على المستوى الأدبي يعد الكتاب مصدرًا مهمًا للشعراء ممن يريدون الانفتاح على الثقافة الشعبية في مطروح، وتطويعها داخل شعرهم بالتجريب وإعادة البعث، وهو على المستوى الإنساني وثيقة تاريخية واجتماعية، كون أغلب النصوص الواردة في الكتاب متوارثة ومتداولة على ألسنة قبيلة بني سليم منذ ما يقارب الألف عام -بحسب المؤلف-
في الكتابين إذًا حياة مفعمة بالتفاصيل الموجزة في عبارات قصيرة ومعبرة على بساطتها الشديدة، بساطة تذكر بالسينما الإيرانية وما تقدمه من قصص ومسارات سهلة غير معقدة، لكنها تؤدي في النهاية إلى منتج عظيم قادر على حجز مكان دائم على الساحة العالمية، والنظر إلى طبيعة الحكاية في هذا المنتج الإبداعي يجعلك تدرك أن الأمثال الواحاتية أو المهاجاة المطروحية كانت لتصبح تيمات لأفلام وحبكات لروايات لو أن مبدعًا اهتم ونسج من هذه القماشة العريضة، فهل ينتبه الأدباء أو هل ينتبه السينمائيون لما نملك ولا نستغل؟
الموروث الشعبي في الشعر البدوي السيناوي
في تقديمه للكتاب البديع “الموروث الشعبي في الشعر البدوي السيناوي”، يقول الشاعر مسعود شومان: “ما كان لهذه الدراسة أن تخرج للنور لولا حاجتنا لمعرفة الأرض والناس في منطقة سكت الدرس العلمي عنها طويلًا … إن الشعر البدوي السيناوي ليس مجرد مجموعة من الأبيات التي تسعى للجمال على قدمي الموسيقى واللغة فحسب، لكنه أحد أهم عناصر الثقافة الشعبية، حيث تشع عليه بمكنونها من الخبرات والعادات والتقاليد والقيم التي تمثل ضوءًا لقراءة المجتمع السيناوي وثقافته”، في حين يلفت مؤلف الكتاب الدكتور سمير محسن النظر إلى “أزمة النشء التي تتمثل في حرمان أطفال الأجيال الحديثة من هذا الزاد الوجداني منذ أن انقطعت الأم والجدة عن تقديمه لأبنائهم دون توفير البديل المناسب”، والواقع أن كلًا من شومان ومحسن قد وضعا أيديهما على موطن الداء في تعامل المجتمع الثقافي مع سيناء، فبين جهل بطبيعة الأرض والناس، وفراغ أحدثه انقطاع الأم والجدة عن تقديم القيم التي كان الشعر البدوي يحملها إلى الأجيال الجديدة، تسللت الأفكار المتطرفة إلى بعض العقول، لاعبة دور البديل للأفكار القديمة التي حملها الشعر، وعليه فإن جزءًا كبيرًا من الأزمة في سيناء يحل إن عادت الثقافة البدوية وعلى رأسها الشعر إلى مسرح الأحداث لتملأ الفراغات المتروكة، ولتصارع المتطرفين.
والحق أن المؤلف لم يغفل في دراسته المهمة وضع حلول لإشكالية انسحاب الشعر البدوي من المنظومة الحياتية للأجيال السيناوية الجديدة، فأوصى بإدراج الشعر البدوي ضمن مناهج مدرسية خاصة بسيناء تراعي الخصوصية المكانية والثقافية، كما أوصى باعتماد هذا النوع من الشعر كنموذج يستخدم في برامج تعليم الكبار، وضمن خطة تستهدف إطلاق قناة تلفزيونية تخاطب أهل سيناء في إطار منظومة ثقافية تتخذ من البحث الميداني وسيلة للوصول إلى نتائج حقيقية بعيدة عن الفشل الذي يصاحب أي محاولة لفهم الثقافات الحدودية دون احتكاك حقيقي بأهل هذه المناطق البكر.
الطب الشعبي في أسوان إشكالية التأريخ والخرافة
يكتب نور الدين عطية مؤلف كتاب “الطب الشعبي في أسوان” من منطقة حرجة للغاية، فبين الحاجة الثقافية لتأريخ عادات وطرق العلاج الشعبية القديمة، وبين الاتهامات بالترويج للخرافة يقع كتابه، ولا شك أن الرجل لا يؤمن بما نقله في كتابه من طرق لعلاج جميع الأمراض تقريبًا بالأعشاب والجبائر، إضافة إلى أقسام العلاج الروحي وفك الأعمال وطرد الشياطين التي تضمنها جزء من الكتاب، لكن الأزمة تكمن في أن قطاعات كبيرة من المصريين لا تزال تؤمن بمثل هذه الطرق العلاجية، وتفضلها أحيانًا على الطب الرسمي، بل وتثق في وصفات الجدات بأكثر مما تثق في الأطباء أنفسهم، ما يجعل الكتاب واقعًا في هذه المنطقة الرمادية التي وجد نفسه فيها مرغمًا، ما دفع رئيس تحرير السلسلة مسعود شومان للقول: “يتميز الكتاب بكونه عملًا ميدانيًا من الدرجة الأولى لأن الباحث نور الدين عطية من أبناء المنطقة المبحوثة وقد بدأ عمله من أكثر من عشرين عامًا … وليس امتداحنا لطريقة عمله أو جهده الميداني، تعني صواب ما جمعه من أنواع العلاجات الشعبية بالنسبة لأي مريض، ولا يمكن اعتبار ما قدمه المعالجون وصفة نهائية أو غير نهائية لعلاج مرض من الأمراض، لكننا نثني على ما قدمه من دراسة ميدانية تتعلق بمجتمع ما وبجماعات تؤمن بهذا النوع من الممارسات العلاجية”