هل توفر الكتابة دخلًا يمكن الأديب من التفرغ للعمل الأدبي؟ أم أنها ضرب من الجنون، ومتعة تراد لذاتها، دون النظر للعواقب؟
في هذا التقرير، أتتبع قصصًا صحفية لكتاب شباب، حصلوا على جوائز أدبية هامة في مصر، نتحدث عن الكتابة، وعن لقمة العيش، عن كيف يوفرون نفقاتهم؟، وأسألهم هل يكفي الأدب وحده للعيش؟
طبيب باليومية
“طلبت من أحد أصدقائي أن يبحث لي عن عمل على جهاز من أجهزة الغسيل الكلوي، تدفع المستشفيات باليوم لطلبة كليات الطب في مصر، كأنه تدريب مدفوع الأجر، أرسم أيضًا، وأحاول بيع لوحاتي كي أحسن دخلي، في الحقيقة لا أريد أن أعمل طبيبًا بعد التخرج، قد أضطر إلى ذلك، لكنني لا أريد”
يضحك الكاتب الشاب أحمد عبد العاطي، وهو يحدثني عن محاولته العمل في العطلات الصيفية ليوفر دخلًا إضافيًا، يروي بداياته مع الكتابة، وكيف أنه كان يكتب سرًا، كي لا يغضب والديه الذين نصحوه بالتفرغ لدراسة الطب، ومن ثم الكتابة بعد التخرج كيفما أراد، يحدثني عن تشجيعهم الذي تلى فوزه بجائزة الشارقة لشباب الجامعات “إبداع 4” فئة القصة القصيرة، يعترف بأنه محظوظ مع الجوائز، فقد فاز في فترة قصيرة بجائزة “إبداع 4” ثم بالمركز الثالث في مسابقة أخبار الأدب، “الجوائز مهمة للغاية، ربما هي مصدر الدخل الوحيد لكاتب القصة القصيرة، حين تقوم بطباعة مجموعة قصصية، قد يطلب منك الناشر مالًا، وقد لا يعطيك ربحًا، أعتبر نفسي محظوظًا، أحد الناشرين تعاقد على نشر مجموعتي القصصية الأولى “انشطار الطير”، دون أن يطلب مالًا، واتفق على أن يعطيني عشر الربح، عادة ما تكون الطبعة 500 نسخة، أعتقد أن أقصى ما يمكنني الحصول عليه عن كل طبعة تباع بالكامل هو ألف جنيه، في الحقيقة لا توفر الكتابة منفردة وسيلة مناسبة للعيش، لذا أحاول أن أبحث عن عمل جانبي دائمًا”
ما يحدث في هذه المدينة
وإذا كانت موهبة عبد العاطي، تواجه مخاطر حقيقية كون الاستقرار المادي مهم لتوفير بيئة جيدة للمبدع، فإنه يحتمي بكونه لازال طالبًا، إسلام عشري – وهو كاتب قصة قصيرة فازت مجموعته القصصية “شيء .. ما يحدث في هذه المدينة” بالمركز الثالث في مسابقة هيئة قصور الثقافة المصرية- يعتقد أن الأمر يغدو أصعب كثيرًا حين تصبح خريجًا، “ميولي أدبية، حاولت الالتحاق بالقسم الأدبي في الثانوية العامة، غير أن حلم أهلي كان مختلف، تخرجت في كلية الهندسة بعد 7 سنوات، كتبت أثناء الدراسة، وكتبت بعدها، استغرقت 7 سنوات كاملة لإنهاء مجموعتي القصصية الأولى، وحين بدأت العمل كمهندس أدركت أنه لا يمكنني الجمع بين الأمرين، لم أكتب حرفًا واحدًا طوال فترة عملي الهندسي، قدمت استقالتي وعملت في كل شيء، عملت في محل لبيع الأسماك، عملت كمحاسب، وأعمل الآن في صالة للألعاب الرياضية، أعمل ثلاثة أيام في الأسبوع لتوفير نفقاتي، وأتفرغ 4 أيام للقراءة وللكتابة، أدرك أن خياراتي انتحارية، غير أني أدرك أن الكتابة تحتاج إلى وقت كي ترى أثرًا لعملك، ربما أكتشف خطأي في النهاية، ربما أعود للعمل الهندسي، لا أعرف، ما أعرفه أن الكتابة وحدها لا تكفي، أترجم، وأدقق الكتب لغويًا، وأنتظر أن يأتيني دخل من ذلك يومًا، أحب أن أكون بجانب الكتابة، أحب الأعمال القريبة من هذا المجال، بشكل عام لا يمكنك العيش في مصر من الكتابة فقط، إما أن تترجم، تعمل بالصحافة، تفتتح دارًا للنشر، تتجه للعمل طبيبًا أو مهندسًا، لا يمكن أن تكون الكتابة وحدها كافية”
مائة جنية أفضل من جائزة الدولة
ورغم كون عشري يريد العمل في الترجمة، أو التدقيق اللغوي كي يبقى قريبًا من الكتابة، إلا أن هذا الخيار لا يبدو بالمثالية التي يعتقدها الكاتب الشاب، ففي حوار نشرته مجلة الكواكب في 25 أكتوبر عام 1988 عقب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب، قال الأديب العالمي ” كانت أغلى أماني في الحياة أن تتاح لي فرصة الاستقرار والتفرغ للعمل الأدبي. ولكن لا أريد مع ذلك أن ياتي شهر أضطر فيه لاقتراض النقود، لذلك فأنا الآن موظف وكاتب سينمائي ثم أديب بعد ذلك. أي أن الأدب هو مهنتي الثالثة ولو ضمنت لي الدولة مائة جنيه في الشهر لكان هذا تقديرًا أفضل من جائزة الدولة، ولقدمت لها كل انتاجي الأدبي لنشره واعداده للمسرح والسينما دون مقابل”
الرأي الذي يؤكده الروائي والصحفي بجريدة الأهرام “أحمد شوقي علي” فيقول “عن نفسي لجأت للصحافة في سن صغيرة، لمعرفتي بأن الكتابة لن تعيلني، الصحافة ليست بعيدة عن الكتابة ظاهريًا فقط، ولكنها للأسف وظيفة قد لا تلائم كاتبًا، لأنها مرهقة، وتكون أكثر إرهاقًا في الظروف الاقتصادية العصيبة التي نمر بها بعد تعويم الجنيه والتضخم، فلكي أتحصل على ما يعينني على العيش بصورة معقولة، أضطر للعمل في وظيفتين، وهو أمر صعب.
تخيل أنك مضطر لأن تذهب إلى عملك في الصباح لمراجعة أخبار كتبها غيرك وإعدادها للنشر، ثم تعود إلى منزلك في المساء، فتضطر إلى قراءة كتاب أو متابعة فعالية ما لإعداد تقرير صحفي يخصك عن هذا الكتاب أو تلك الفعالية، قد يكون الكتاب مملًا أو غير ذي نفع لك، ولكنك تضطر للاستمرار في قراءته، كذلك قد تكون الفعالية تافهة لكنك أيضًا تضطر لمتابعتها، وإلا فإن راتبك لن يعينك على الحياة، فأين الوقت الحقيقي الذي تمتلكه لنفسك ولمشروعك الأدبي المفترض؟
منذ أن انتهيت من روايتي ونشرت في العام 2015 لم أكتب نصًا مكتملًا، لا وقت ولا مزاج ولا طاقة لشيء تأسيسي مثل الكتابة”
أزمة الصحافة والسينما!
القاص محمد علام يعقب على حديث شوقي فيقول ” أزمة الانتماء للصحافة الثقافية ليست فقط في كونها قد تأخذك من الكتابة، لكن الأمرأكبر من ذلك، فأنت لا تضمن على أي حال أن يوفر لك هذا النوع من الصحافة دخلًا ماديًا مناسبًا، عن نفسي عملت لشهور في هذا المجال، غير أنه كان عملًا دون مقابل، لم أحصل على جنيه واحد تحت دعوى التدريب، بعض المواقع الاليكترونية والصحف تستخدم الثقافة لأغراض تسويقية، وكل ما يهمهم هو عدد الزوار المنتظر، أثناء العصر الذهبي للأدب المصري، كانت الصحافة الثقافية جزءًا من الحل، إذ لجأ إليها كبار الكتاب كمصدر للدخل عن طريق كتابة المقالات وبيع القصص، والروايات، أما الآن فالأمر أضحى أصعب، في الأربعينيات والخمسينيات كان لدينا أكثر من 25 جريدة ثقافية، مع الوقت أخذ العدد يتقلص إلى أن أصبح عدد الجرائد والمجلات الثقافية المتخصصة ضئيلًا للغاية، والسؤال هنا، هل يزيد عددنا أم ينقص حتى نقلص كل يوم عدد مطبوعاتنا الثقافية؟
السينما أيضًا مثلت بابًا يحقق منه كبار الأدباء دخلًا، وقت أن كانت تبحث عن الرواية الجادة لتحولها إلى فيلم، أم اليوم فطريق السينما والأدب لم يعد واحدًا، والروايات التي تتحول إلى أفلام الآن، تتحول في الأساس لأنها ذات شعبية، كجزء من معادلة الربح، وبالتالي فقد الأدباء مصدرًا مهمًا للدخل كان يوفر لهم حياة مناسبة”
الروائي الشاب معتز حسانين يرى فكرة الوظيفة المرتبطة بالكتابة فكرة خادعة، راودت الجميع، فبعد تخرجه في كلية التجارة، عمل حسنين لدى سلسلة مكتبات شهيرة يقول عن تجربته: “تصورت أن وجودي داخل مكتبة سيساعدني أكثر على الكتابة، وإنهاء مشروعي الروائي، غير أن الأمر لم يكن كذلك بالمرة، كان بيع الكتب يبعدني عن الكتابة، يجعلني أفقد عشقي للكتب، انخفض مستوى قراءاتي، وكان على أن أتخذ قرارًا حاسمًا، أتابع عملًا صرت اكرهه، أو أقدم استقالتي وأكتب، استقلت وأعمل الآن على مشروع روائي جديد، لا أستطيع التوقف عن الكتابة رغم كل شيء”
يا وابور الليل يا رايح ومقبَّل ع الصعيد
وإذا كانت تجارب الأدباء مع الوظائف المختلفة تبدو صعبة، فهي في الصعيد أشد صعوبة وقسوة، الشاعر الصعيدي شديد الموهبة أحمد جمال مدني يتحدث عن تجربته فيقول: “عملت أعمالًا مرهقة للغاية، عملت في مجال البناء، وشاركت في بناء العمارات في القاهرة، اشتغلت لفترة كفرد أمن، وحفرت في الجبل مقابل أجر، تنقلت بين محافظات الجمهورية باحثًا عن عمل، عملت في القاهرة، وفي محافظات الصعيد، وفي بعض المحافظات السياحية كمرسى علم، فقط لأوفر ضرورات العيش، وبقدر ما كانت التجربة قاسية، إلا أنها أكسبت شعري الصدق، ومكنتني من الاحتكاك بطبقات المجتمع المختلفة، أعتقد أن التجربة الشعرية الصادقة تولد من رحم المعاناة، عملي الآن أكثر راحة، أعمل كمدقق لغوي، ربما تظن الأمر سهلًا، لكن الحقيقة مختلفة، فعملي كمدقق لغوي يجعلني شديد التركيز على اللغة، العمل يجعلها غاية، والشعر يريدها وسيلة لنقل المشاعر، أنتجت هذا العام عدد قصائد ضئيل للغاية نتيجة لهذا الصراع، غير أنه ورغم كل شيء لا يمكنني تصور الكتابة كمهنة، هذا شيء يفقدها الكثير من قدسيتها، لا يجب أن تكتب لتأكل، لكن ربما يكون لديك ديوان ما، تقدمه لمسابقة فتفوز، ويوفر لك الفوز المال، ربما يكون لديك أغنية ما تبيعها فتحصل على شيء من مال، لكن المهم هنا، ألا تكتب لأجل الجائزة، وألا تكون الأغنية مكتوبة في الأصل لتباع، يجب أن تحترم شعرك، وتحترم قدسية كتابتك، تكتب أولًا، ثم إذا صادف وحصلت على مال من وراء الكتابة كان بها، وإن لم يكن، فالكتابة أسمى، الكتابة غاية تطلب لذاتها”
الغربة فاجعة يتم إدراكها على مراحل
يتابع الشاعر محمد المتيم الحديث فيقول: “الأزمة المالية لا تؤثر فقط على قدرتك على العيش، ولكنها تؤثر أيضًا على تطورك الشعري، أردت الانتقال للقاهرة كي أحتك أكثر بالأوساط الثقافية، وأكتسب المزيد من الخبرات، غير أن العمل لم يبق لي وقتًا لشيء، كنت أعمل في صيدلية على أطراف القاهرة لمدة 12 ساعة، وأنفق ساعتين في المواصلات، وأنام ثماني ساعات فيتبقى لي من اليوم ساعتين، علي أن أحضر فيهم ندوات، وفاعليات شعرية، وأن أقرأ أيضًا إن استطعت، كنت أقرأ في الصعيد، وكان ينقصني الاحتكاك بالجماعة الأدبية، في القاهرة فقدت القراءة والاحتكاك معًا، وبمقابل بالكاد يكفي الطعام والمواصلات مرتفعة الثمن في العاصمة، في النهاية قررت العودة، على الأقل أستطيع حضور الندوات الشعرية في بيت الشعر بالأقصر”.
الكتابة على المقاس
على الجانب الأخر يبدو الروائي الشاب أحمد جاد الكريم متصالحًا أكثر مع وظيفته كمعلم للغة العربية، إذ يجد عمله أكثر ازدهارًا في الشتاء مع احتدام العام الدراسي، وضيق الوقت، كما يجد في عدم الاعتماد على الأدب في توفير النفقات نوعًا من الحرية الأدبية يقول جاد الكريم: ” تبدو الوظيفة بالنسبة للكاتب قيدًا وعائقًا يمنعه من العمل بشكل يومي، خاصة في وطننا حيث من الصعب أن يضمن الأدب دخلًا مناسبًا يسد احتياجات الكاتب وأسرته، عن نفسي كنتُ أتوهم هذا قديمًا، لكن وجدت أن فترة انتاجي تكون مزدهرة في الشتاء وقت احتدام العام الدراسي، خاصة وأني أعمل معلمًا، مع قصر وقت النهار، وضيق الوقت المتبقي من اليوم ولزوم الاستيقاظ المبكر مع بزوغ أول خيط من الشمس، لكن الوقت المحدود، يجعل من الواجب أن يكون هناك انضباط ودقة والتزام بخُطة عمل يومي، واستثمار الوقت في انجاز ما هو مطلوب.
لا يوفر الأدب والاشتغال بالكتابة مردودًا ماليًا مناسبًا؛ فمكافآت المجلات والجرائد الثقافية المصرية هزيلة جدًا، وبعضها لا يدفع للكاتب مقابلًا ماليًا لمقاله أو قصته، لكن يبقى اعتبار الأدب رسالة وغض الطرف عما يأتي به من مكافأة مالية مريحًا بعض الشيء؛ لأن هناك الكثيرين ممن يعتبرون الكتابة مهنة يُرتزق منها، فتأتي كتاباتهم على مقاس ما يُدفع لهم”
تتفق ندى الأبحر – وهي قاصة ومترجمة- مع رؤية جاد الكريم حول الكتابة على المقاس “يمكن للكتابة أن توفر دخلًا كبيرًا، شرط أن تفقد ذاتك، وأن تكتب مع الموجة، تكتب ما يحبه السوق، لا ما تحبه أنت، أفضل ألا أكسب من الكتابة، على خسارة ذاتي إن ربحت من ورائها.
هناك نوعان من الكتاب، الأول لا يستطيع الجمع بين العمل والكتابة، والثاني يحفزه العمل على الكتابة بشكل أكثر غزارة، الاحتكاك بالناس يعطيه الكثير من الأفكار، للأسف أنا من النوع الأول، لم أكتب منذ فترة طويلة للغاية، ولم أقرأ أي كتاب منذ ثلاثة أشهر تقريبًا، حين بدأت الترجمة اعتقدت أن العمل في مهنة متصلة بالكتابة سوف يساعدني أدبيًا، غير أني اكتشفت في النهاية أن العمل هو العمل، أي وظيفة ستؤديها في الأخير من أجل المال، وستأكل وقتك تمامًا، كل الوظائف مملة بعد فترة، حتى وإن كنت تحبها”.
مجنون بما يكفي لأكتب
وفي حين يرى جاد الكريم الوظيفة تمثل حافزًا، وتؤكد ندى الأبحر على قوة الأفكار التي يمكن أن تحصل عليها من الشارع يعقب مصطفى الشيمي – وهو روائي وقاص مصري حاز مؤخرًا منحة تفرغ لكتابة روايته الجديدة-:
“النزول إلى العمل، والاحتكاك بالناس يلهمك الكثير من الأفكار، هذا حقيقي، غير أنه لا يترك لك وقتًا للكتابة، ما فائدة الفكرة إن لم تتمكن من كتابتها؟!، أكسب من عملي أكثر من الراتب الذي ستوفره منحة التفرغ، غير أني مجنون بما يكفي لأكتب، لا يوفر الأدب المال، والحلول منحصرة في التقدم للحصول على منح التفرغ، أو الفوز بالجوائز، بعض الجوائز تستطيع أن تؤمن للأديب استقرارًا ماليًا، البوكر وكتارا وغيرهما”
الجوائز جزء من الأزمة!
على الجانب الأخر لا يتفق الشاعر شريف أمين بشكل كلي مع كون الجوائز حلًا قد ينقذ الأديب، ومشروعه الأدبي، يقول أمين: “مع الأسف لا يمكن التعويل كثيرًا على مسألة حصد الجوائز الأدبية، فالجوائز الأدبية في مصر قيمتها المادية ضعيفة للغاية، ولكي تحصل على جائزة كبرى يجب أن تذهب بانتاجك الأدبي إلى منطقة الخليج العربي، وهذا ينقلنا بدوره إلى مناقشة معضلة كبرى فيما يخص مسألة الجوائز، الجوائز في مصر والوطن العربي جوائز مؤدلجة، أنا شاعر عمودي، لدي فرصة جيدة في مسابقات منطقة الخليج لأنهم منحازون للشعر العمودي، بينما لا يجد شعراء مهمين كمحمد القليني، وعبد الرحمن مقلد وغيرهم من شعراء النثر مكانًا هناك، في الوقت ذاته لا أجد لنفسي أو للشعراء العموديين مكانًا في المسابقات المصرية، إذ يبدو الاتجاه العام في مصر قد تحول ناحية شعر النثر، منظومة الجوائز ستظل تعاني مشكلة ضخمة طالما لم تقم على معايير وأطر شفافة للغاية، وما لم تكن لجان التحكيم متنوعة، وقادرة على تذوق وقراءة كل الأنواع الأدبية”
والحق أن الحلول التي طرحها المشاركون في هذا النقاش حول مسألة الاستقرار المالي للأديب، هي حلول تثبت أصل المشكلة، ولا تعد مستقرة بذاتها.
فالجوائز الأدبية غير مضمونة والفائز بها أديب واحد وسط مئات المتقدمين كل عام، ومنح التفرغ الأدبي – بفرض التمكن من الحصول عليها- لا تستطيع تأمين دخل يمكن الاعتماد عليه في ظل موجات التضخم الحالي في مصر، ويحتاج قرار مثل الاستقالة من العمل للتفرغ، بعد الحصول على المنحة، إلى شيء كبير من المجازفة، والتضحية، والعشق للكتابة.
ولا تبدو أفكار مثل إنشاء مظلات حماية إجتماعية للأدباء، أو تفعيل دور إتحاد كتاب مصر، وتطوير آلياته حاضرةً بقوة في مناقشات الكتاب المصريين، إذ يقدم الإتحاد معاشات، أو مساعدات للحالات الطارئة، بمبالغ مالية تجاوزها الزمن، تصلح لثمانينات القرن الماضي، بأكثر مما تصلح كدعم مالي للأديب في 2017.
لم يعد الانتماء للإتحاد مغريًا كما كان في الماضي، حين سألت مصطفى الشيمي عن الأمر قال “لدي أربعة أعمال منشورة، غير أني لست عضوًا بإتحاد الكتاب، لم أسع – إلى الآن- لذلك، ومن ثم لا يمكنني الحديث عن كيان لا أنتمي إليه في الوقت الحالي” وهي الظاهرة التي يمكن ملاحظتها في عدد كبير من الكتاب والأدباء المصريين، الذين لا يسارعون إلى عضوية الإتحاد رغم سنوات طويلة قضوها في الكتابة.
الصحفية السويسرية سوزان شندا ترى أن الأمر لا يختلف كثيرًا في أوربا، فالكتاب الذين تتصدر كتبهم قوائم المبيعات هم وحدهم الذين يستطيعون الاعتماد على الكتابة كمصدر دخل وحيد، بينما تملك العديد من الأصدقاء الذين يكتبون، ويعملون في نفس الوقت في مهن بعيدة عن الكتابة، بين أصدقائها صحفيون ومدرسون وغيرهم، “شندا” قالت أن المؤسسات السويسرية توفر منحًا للكتاب كي يتفرغوا للكتابة، وأعطتني أمثلة لتلك الجهات، قبل أن تتمنى للكتاب التوفيق في حل هذه المعضلة الدائمة.
الأكثر مبيعًا يشتكي أيضًا
عقب اتصالي بشندا سألت الشاعرة الشهيرة دعاء عبد الوهاب عن إمكانية تحقيق دخل واسع من الكتابة، حال دخلت مؤلفات الكاتب إلى قائمة الأكثر مبيعًا.
دعاء أجابت: “الكتب المطبوعة لا تحقق دخلًا يذكر، الكتاب يجب أن يكون رخيصًا في الأساس كي يستطيع القارئ شراؤه أصليًا، الكتب مرتفعة الثمن لا تبيع – في الغالب- نسخًا كثيرة، يستفيد الكتاب من تصدرهم لقائمة المبيعات بطرق أخرى، تنظيم حفلات شعرية مثلًا وتحقيق دخل من التذاكر، بيع أغنيات لفرق غنائية، عن نفسي استفيد من موهبتي عن طريق بيع بعض الأغنيات، وكتابة بعض الإعلانات، أنا خريجة كلية الإعلام قسم إعلان في الأصل”
وبين أمنيات سوزان شندا الطيبة، والواقع المؤلم للكتاب، تبدو المسافة شاسعة، ويبدو تدخل الدولة والمؤسسات الداعمة للثقافة حتمي لتوفير دعم أكبر، وتقديم منح تفرغ أكثر، تمنح فرصًا أكبر للإبداع بعيدًا عن ضغط المال، والوظيفة، والسؤال الأهم هنا، هل نملك حقًا رغبة حقيقية لتحرير مبدعينا ودعمهم؟! وإذا كنا نملك الرغبة فهل نملك الإرادة والرؤية اللازمة لحل الأزمة؟!