أحب طلال فيصل، قرأت روايته الأولى ” سيرة مولع بالهوانم ” فجاءت خفيفة على قلبي، تشير إلى موهبة كاتبها، وقرأت روايته الثانية ” سرور ” فرفع بها سقف توقعاتي تجاه ما يكتب إلى السماء، وإنتظرت ” بليغ “، ثم قرأتها فسقطت بي من سماء ” سرور ” إلى واقع أضيق من ما كنت آمل كثيرًا.
تدور أحداث ” بليغ ” حول ثلاثة خطوط رئيسية، خط طلال فيصل الراوي الدائم لروايات طلال فيصل والذي يمثل المشكلة الأولى في الرواية، فطلال فيصل الراوي في ” سرور ” التزم بدوره كراوٍ، ولكنه في ” بليغ ” طمع في مساحات أوسع، ونازع البطل الرئيسي للرواية مكانه، وطغى أحيانًا على الأحداث بشكل غير مبرر، والأصل في الراوي أن يكون حضوره خافتًا كالملقن المسرحي إن علا صوته أفسد المسرحية على الجمهور، طلال – في الرواية – نصف أديب نصف نصاب، شخص مشوش يقع في غرام فتاة فرنسية ويتمكن من السفر إلى فرنسا خلفها كلما أراد بسهولة ساذجة ليكتشف بعد ذلك أن هذه الفتاة الفرنسية لا تحبه بشكل حقيقي، ولكنها تحب زوجها السابق، وتتطور بينهما الأحداث لتطرده في الأخير من منزلها وينتهي به الحال محطمًا في مصحة نفسية، ما الذي يجعلني أتوحد كقارئ مع هذه القصة؟ .. فتاة فرنسية وقصة حب تحدث في باريس، وشاب محظوظ يمكنه السفر لفرنسا، عناصر كلها تبدو بعيدة عن بيئة القارئ المصري الذي من المفترض أن تكون الرواية موجهة له بشكل أساسي، فهل قدم طلال من المسوغات ما يجعلني أتعاطف مع بطله؟ أو هل عالج قصة الحب هذه بطريقة تبرز صراعًا حقيقيًا؟ لا أعتقد …
بليغ حمدي الملحن العبقري هو البطل الرئيسي للرواية – التي تتحدث عن الحب وتباريحه في تعريف مؤلفها – يهيم حبًا بوردة التي تبدو حينًا زوجة مغلوبة على أمرها تعاني مع زوج مستهتر، وتبدو حينًا شحصية شريرة تستغل بليغ ولا تقدر حبه، الحكاية التي من المفترض أن تكون الحكاية الرئيسية تداخلت مع سرد لحياة بليغ منذ كان طفلًا وأخذت مساحة ثم استمرت بعدها الأحداث، بشكل جعلني أتسائل طول الرواية عن العقدة، أين الصراع في هذه الرواية؟، كل الأحداث تمضي بشكل عبثي للغاية، بطريقة علمنا أن بليغ عاد بوردة من الجزائر بعد أن حصلت على طلاق، علمنا أن وردة ضاقت ذرعًا باستهتار بليغ وطلبت الطلاق، علمنا أن بليغ يحب وردة وهي لا تقدر رومانسيته، كل شيء يمضي دون أن يشتبك أي حدث مع الأخر في فقر درامي رهيب ومستغرب، كأن طلال يريد أن يخرج وقد جبر بخاطر كل الشخصيات، يمكن أن تكره وردة ويمكن أن تجد لها العذر، تشفق على طلال أو تجده نصابًا، كل المشاعر في منطقة وسط وأنت وذوقك.
في روايته ” سرور ” استفاد طلال من كون الشاعر نجيب سرور اصطدم بالكل، وحارب الكل، وكتب شعرًا، وفجر فضائح، وغضب وأحب وثار، دخل مستشفى المجانين ورآه البعض عاقلًا، ورآه آخرون مجنونًا، فكانت حياته من البداية للنهاية خالقة لدراما الرواية، ثم إن طلال استخدم هناك تكنيكًا عظيمًا في الحكي من وجهة نظر الأطراف المختلفة في سينمائية بديعة كأنك تشاهد وثائقيًا عظيمًا يتحدث فيه كل من كانت لهم علاقة بسرور، اختلفت الحكايات ونسجت عشرات القصص ما جعلك ترى نفس الحدث من جهات نظر مختلفة، بشكل أخفى الفواصل بين الحقيقة والخيال وبدا طلال كأنه هيث ليدجر يؤدي دور الجوكر يحكي ألف رواية لتفسير حدث واحد، ثم جاءت بليغ فكأن كل شيء فُقد، الرواي طلال فيصل يروي الأحداث على لسانه، ثم يعود بليغ ليروي نفس الأحداث تمامًا ولكن بأسلوب مختلف، مئة صفحة على الأقل في البداية أو النهاية لو أعيد ترتيب الرواية وحذفهم لما فاتك حدث واحد للتكرار وسابق القراءة، انتقالات حادة من ضمائر الغائب على لسان الراوي، لضمائر المتكلم بشكل يشوش القارئ، إرباك تخففه موهبة طلال الواسعة في السرد والتلاعب بالكلمات في إمتاع، وإمتاع كان يمكن أن ينجو بالرواية لو لم تعانِ هذا المط وإعادة حكي ما تم حكيه، حتى الحوار البديع الذي أجراه طلال على لسان أبطاله لم يسلم هو الأخر من جمل كتبت بعشوائية لم تراع البعد الزماني ولا أبعاد شخصية قائلها، فتجد أم كلثوم تطالب بليغ حمدي أن ” يبطل علوقية ” وكأن الكلمة كانت دارجة في الستينات بمثل معناها الحالي في 2017، وكأنها لم تكن سبة شهيرة في الأرياف قبل أن تخرجها الأجيال الحالية من معناها الريفي إلى معناها الاصطلاحي الحالي، وكأن المتحدث كان شخصًا أخر ولم يكن أم كلثوم.
الخط الثالث في الرواية هو سليمان العطار، شخصية مساعدة استخدمها طلال – المؤلف – للربط بين بليغ وطلال فيصل – الراوي- وهو صاحب قصة الحب الثالثة الفاشلة أيضًا في الرواية، القصص الثلاثة التي من المفترض أن تتجمع لتكون في النهاية رواية عن الحب وآلامه، غير أن الرواية يمكن أن تعتبر – مع الأسف – رواية البدايات غير المكتملة، والفرص الضائعة، كأنها رواية مبتسرة، أرادت أن تحكي عن الحب و تنحدث بشكل عارض عن الثورة و تشير للاغتراب وتضع بصمة على كل ما يمكن أن تصل إليه يدها من أمور، غير أن السبل تفرقت بها، فلا هي استطاعت أن تخلق مزيجًا متداخلًا بديعًا تعالجه بالكامل بشكل جيد، ولا هي استطاعت الإمساك بخط واحد تغني معالجته باتقان عن كل الخطوط الأخرى.
” بليغ ” في نظري مشروع جيد لم يعالج كما ينبغي، غير أنه لم يعدم جمالًا وإمتاعًا، استطاع في أحيان كثيرة التغطية على ضعف الحبكة، ربما لو كان مؤلف ” بليغ ” شخص أخر لكنت أقل حدة في النقد، ربما لو لم يكن موهوبًا كطلال لكان التجاوز ممكنًا، لكن الرواية اتسمت بسمات أبطالها فكأن كاتبها هو طلال فيصل – الراوي- الذي يكتبها في أسبوعين ليقدمها للمركز الباريسي، وكأنه ما كتبها إلا ليحصل بها على المنحة التي تقربه من الحبيبة الغائبة.
بليغ.. آمال واسعة وواقع ضيق
أحبُ طلال فيصل، قرأت روايته الأولى سيرة مولع بالهوانم فجاءت خفيفة على قلبي، تشير إلى موهبة كاتبها، وقرأت روايته الثانية سرور فرفع بها سقف توقعاتي تجاه ما يكتب إلى السماء، وانتظرت بليغ ، ثم قرأتها فسقطت بي من سماء سرور إلى واقع أضيق من ما كنت آمل كثيرًا