جاري التحميل...
سينمامقالات

The Lives of Others إن لم تتخذ موقفًا فإنك لست إنسانًا – هاف بوست عربي

The lives of others  فيلم ألماني حاصل على الأوسكار من انتاج سنة 2006، تدور أحداثه في ألمانيا الشرقية عام 1984 قبل خمسة أعوام من سقوط سور برلين، مؤلف ومخرج الفيلم هو فلوريان هنكل دونرسمارك، وعلى رغم كون العمل أول أفلامه الطويلة وإخراجه لعدة أفلام بعده إلا إن الفيلم يعد من أشهر أعماله على الاطلاق.

يملك دونرسمارك أدواته بشكل جيد للغاية ويُسير الأحداث في خطوط تتلاقى جميعًا مع شخصية البطل الرئيسي جيرد ويسلر الدور الذي يلعبه باقتدار شديد الممثل الألماني أولريتش مويه، ويسلر هو ضابط بجهاز الشرطة السري الرهيب لألمانيا الشرقية وهو الشخصية التي تبدأ من عندها الأحداث ويستطيع المشاهد مع اللحظات الأولى للفيلم تحديد سماته الشخصية التي تتمثل بشكل أساسي في الصرامة الشديدة، القسوة والولاء التام للحزب والمبادئ الاشتراكية والذي يرى أن واجبه هو مواجهة أعدائها، الفيلم يتتبع رحلة البطل الذي ينتقل مع تطور الحدث من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وتتحول شخصيته في النهاية إلى شخصية مختلفة تمامًا، ومن خلال البطل تتعرف على الشخصيات المساعدة والتي أراها لا تقل أبدًا في الأهمية ولا في العمق عن شخصية البطل ويمضي المخرج بكل هذه الخطوط معًا بنجاح شديد وتبدأ شخصيات الفيلم بالتفاعل في عملية منضبطة تمامًا والأحداث في التصاعد حول عدد من نقاط التحول التي تؤدي إلى الوصول إلى نقطة الذروة قبل النهاية بقليل ما يحافظ على الايقاع ولا يصيب المشاهد بالملل في أي لحظة من لحظات المشاهدة.

الثلث الأول من الفيلم هو ثلث تأسيسي، يهدف بالأساس للتعريف بالشخصيات ومواقعها من الحبكة الروائية والاختلافات النفسية الشديدة بينها ففي مقابل ويسلر الضابط المؤمن فعلًا بمبادئ الاشتراكية، والذي يتصرف بآلية شديدة جدًا مع الأشياء كرجل أمن، يوجد أنتون جوبتز الضابط النفعي الذي يعمل بالأساس للحصول على الترقية وتحسين وضعه داخل الحزب الحاكم والذي يكون بالضرورة متقدم في الرتبة عن ويسلر رغم أن الموهبة لصالح الأخير، وفي رأس الهرم يوجد الوزير همبف يمثل أعلى سلطات الاستبداد داخل العمل، والذي يحرك الأحداث لإثبات خيانة المخرج المسرحي جورج دريمان للنظام الشيوعي ومن ثم تعزيز موقفه ضد أعضاء الحزب من مقربي دريمان، بالإضافة إلى رغبته في الحصول على صديقة دريمان الممثلة الجميلة كريستا زيلاند، أحداث في بدايتها تشبه إلى حد كبير ما قدمه عاطف سالم وعبد الحي أديب في ” حافية على جسر الذهب “، وتستخدم الصراع الكلاسيكي بين السلطة والمثقفين كمرآة لعكس حالة الاستبداد العام على كافة الطوائف، حبكة كانت ستكون ضعيفة للغاية لولا وجود شخصيتين مساعدتين أديا دورًا حاسمًا في خلق نقاط التحول الروائي، شخصية بول هوسر صديق دريمان الثائر سرًا على النظام الشيوعي، وشخصية ألبرت جرسكا المخرج الموقوف عن العمل والمدمر تمامًا لسنوات والذي يؤدي انتحاره لتحول دريمان من مسالمة النظام والوقوف في موضع حيادي منه إلى اتخاذ موقف ضده.

وعلى صغر مساحة شخصية جرسكا، إلا أنها محورية للغاية، فقد كانت تمثل الخوف الذي يجعل دريمان ” يضاجع النظام ” بتعبير كريستا زيلاند الممثلة التي تخشى بدورها أن تمنع من الصعود إلى خشبة المسرح ويؤدي بها خوفها إلى الخضوع في النهاية، وسط حالة من الصراع النفسي الرهيب.

الأهمية الكبيرة لشخصية جرسكا لا تجعلني أنسى شخصية بول هوسر صديق دريمان، شخصية مساعدة أدت دور صغير للغاية تأثيره غير كبير على الخط الأساسي للفيلم ولكنه يعمق من الحبكة ويظهر الصراع بين المثقفين والسلطة في مرحلة متقدمة من الأحداث ويواجه نوعية المثقف السلبي الذي أداها جورج دريمان في البداية ويعمل بعد ذلك كناقل للمشاهد إلى الأمام ومساعد لشخصية دريمان على التحول.

يعمد المخرج إلى خلق التناقض ووضع المتضادات في مواجهة بعضها – على طول الخط الروائي للفيلم- وينوع في طرق بناء هذا التناقض فيستخدم أحيانًا أفعال قمة في المادية للإشارة إلى قيم رمزية، كاستعمال الجنس للدلالة على الوحدة في مرة، وفي أخرى إشارة إلى القهر، وفي الثالثة رمزًا للحرية والتمرد بصورة درامية بحتة وفي مواضع صحيحة لا تهدف إلى الإثارة بقدر ما تهدف إلى خدمة البناء العام للقصة، على نفس النهج الذي اعتمده جورج أوريل في روايته 1984، ومن هنا يمكن تفسير اعتماد الفيلم بشكل كبير على سياسة إبراز التناقضات إذ جعل من هذه التناقضات مفتاح حركة الحدث ووسيلة تطور رحلة الشخصيات الرئيسية للفيلم، فحين يُخضع ويسلر منزل دريمان للمراقبة يبدأ في إدراك الفوارق الجوهرية بين حياته الرتيبة وما يعانيه من وحدة قاسية وبين ما يعيشه المخرج المسرحي من حياة، وإذا كان موت جريسكا هو مفتاح تحول شخصية مفعمة بالحياة مثل دريمان إلى شخصية ثائرة غاضبة من الموت، فإن التفاصيل والحياة التي كانت تغيب عن ويسلر في شقته التقليدية وزنازين استجوابه للمتهمين مثلت مفتاح تحول شخصية ميتة مثله إلى شخصية راغبة في الحياة داعمة للأحياء.

The lives of others لوحة فنية بديعة متقنة الكتابة والإخراج مع أداء رائع من الممثلين لأدوارهم وقدرة عالية على احتواء كم هائل من المشاعر البشرية المختلفة وإظهارها على الشاشة من خلال شخصيات العمل في زمن عرض الفيلم وتأريخ للرعب والقهر الذي يعانيه البشر تحت الحكم القمعي والنظام البوليسي الذي يراقب الجميع، بميزانية محدودة 2 مليون دولار ومكان مهم على خريطة السينما العالمية، وسؤال كبير يطرح نفسه حول سبب توقف السينما العربية عن إنتاج أفلام مشابهة مع الميزانية غير الضخمة لتلك النوعية من الأفلام وسابق النجاح العربي في إنتاج أفلام مثل البريء واحنا بتوع الأتوبيس وغيرها؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.